عودة الشاعر لحضن معشوقته

-1-

أنا أعادي الملح في فنجان قهوة الصباح

أخاف لحظة الوداع، فالفراق شوك

أخاف أن تضيع وشوشات كفي في الظلام

لذاك لا أحب لوناً يشبه الرماد، وشكلاً يشبه السكين

وأشرب قبل نومي كل ليلة قصيدة

لهذا أرتب حلوى العيد، ولعبي القديمة في صندوق أمي

كي لا أرى في نومي الأحلام المزعجة1.

لا يمكننا اعتبار “علي صدقي عبدالقادر” شخصا عادياً، فهو شخص أحب الحياة وأخلص لها وأعطاها الكثير من كلماته وأحاسيسه، وظلت (يحيا الحب) علامته الفارقة.

وعلى صعيد التجربة الشعرية فالشاعر “علي صدقي عبدالقادر” أو “شاعر الشباب” يمثل مفصلاً مهما في تجربة الشعر الليبي، فمجموعته (أحلام وثورة) الصادرة في العام 1957، صحبة (الحنين الظامئ) مجموعة الشاعر “علي الرقيعي”، تمثلان بداية تجربة الشعرية الحديثة في ليبيا. فتجربته تختصر تجربة الشعر الحديث في ليبيا، خاصة وهو الشاعر الذي آمن بالتغيير والتجريب، والكتابة خارج القوالب الجاهزة. فخرج عن القصيدة العربية في ثوب الشطرين والشطر وتنويعاتهما إلى الشعر الحر (التفعيلة)، إلى التخلي مطلقا عن الإيقاع، إلى فضاء النثر، ورحابة النص المفتوح، واختار لتجربته شكلاً لا يقصد فيه قولبة النص، إنما ترتيبه، حيث يبدأ النص من عنوان رئيسي (ومن بعد يتفرع إلى ثلاث أو أربع عناوين.. حيث يعمل الشاعر في هذا الشكل على الكتابة بشكل متوازي، وأعني أن الشاعر ينطلق في ثلاث توازيات يقارب فيها المشهد، وهو مازال يعول على أجزاء الصورة التي يريدها، الأجزاء الصغيرة التي يراها هو)2.

 

كم أشتهي

إني أضمك، ضاحكاً، أو باكياً، أو خائفاً

ذا لا يهم

ما دمت متحداً معك

كالطفل تدمع عينه، ولسانه يمتص حلواء

وأدس أنفي فوق نحرك

لأشم عمري

خوفاً من الغول، الذي يدعونه بالذاكرة

تطفو عليها حادثات، أبتغي نسيانها3.

وعاد الشاعر إلى حضن معشوقته، إلى الأرض التي طالما تغنى بها، وباهى بها بلاد العالم، وراهن على ملحها وياسمينها وفلها، ونسائها اللواتي علمنه كيف يبتسم كل صباحٍ، وهو يقبل فنجان قهوته.

عاد الشاعر لينتشر في خضرة النباتات، وألوان الزهور، وغناء العصافير. يتسرب إلى الماء فينضح الشجر قصائداً وأشعاراً.

عاد الشاعر ليبدأ حكاية جدية، فصلاً جديداً، حباً جديداً. عاد ليبدأ من جديد.

-2-

على الصعيد الشخصي، يمثل لي الشاعر الراحل “علي صدقي عبدالقادر” قيمة ثقافية وإبداعية حركتني بطريقة غير مباشرة للنظر أكثر لإمكانات النثر، وما يمكن للمفردة من طاقة شعورية، وللجملة من قدرة على التشكل.

سأحاول أن أختصر تجربتي مع الشاعر من خلال لقطتين، هما أول ما استدعتهما ذاكرتي حال قراءتي لخبر وفاته.

لقطة أولى:

ليلٌ وسكون، وجلسة تجمعني بالشاعر “علي صدقي عبدالقادر” والأصدقاء: خالد شلابي، إبراهيم الككلي، مراد الجليدي. اللقاء تحت رعاية مهرجان زلطن (أبريل-1999). كانت المرة الأولى التي أكون قريباً فيها  من الشاعر “علي صدقي عبدالقادر”.

في هذه الليلة تعرفت عن قرب إلى شاعر الشباب، عرفت لماذا التصق به هذا الاسم، ولماذا كان يختم بـ(يحيا الحب)، ولماذا كان يحب “فاطمة”، ولماذا سكنت الوردة الحمراء أعلى القلب.

في هذه الجلسة تحدث الشاعر عن الكثير من ذكرياته، لم يتحدث عن نفسه، إنما عن ذكرياته ومعشوقته مدينة (طرابلس)، تحدث عن طرابلس القديمة، عن الناس عن الشوارع، عن (الضهرة) و(شارع الضل) حيث ألححت عليه في الحديث عن هذا الشارع، حيث أسكن بالقرب منه. تحدث عن (سواني سكره)، الميناء، القلعة (السرايا الحمراء)، وتوقف عند أحد أزقة المدينة القديمة وتنهد، أدركنا إن شيئاً في البال أو حكاية ما تسكن هذا الشارع الذي دخله من (الأربع عرصات)، وتوقف!!، لم يذكر اسمه، فقط سرب إلينا رائحة الورد والياسمين التي كانت تنبعث من أحد البيوتات في ذلك الشارع.

برشاقة، قفز بنا الشاعر إلى أهم الفنون التراثية الطرابلسية –على حد تعبيره-، حدثنا عن طقسه وتشطيراته وأسمعنا الكثير منه، إنه (البوقالة)، وذكر قصة عن فتاة قابلته من وراء الباب وقالت:

أسمك علي والعلي عالي

يا جوهرة في العقد يا نقش خلخالي

دير روحك طبيب وتعال شوف حالي

نصلي أنا وياك في جامع العالي.

لقطة ثانية:

عندما دخل إلى المكتب، لم أجد إلا أن أبادله الابتسامة قبل السلام، وهو الذي لا تفارقه ابتسامته البريئة.

جلست على الكرسي المقابل له، وبدأ هو في قراءة نصه الذي خص به صحيفة الشط، وطلب مني أن أطلع على النص حتى أضمن أن يتم تنضيده دون أخطاء. ثم مد لي صورة له، حتى يتم إرفاقها بالنص حال نشره.

قمت من فوري لوضع النص ضمن الملف الخاص بمواد العدد وتسجيل المادة، بينما كانت أذناي معه، وهو يتحدث عن الشاعر “علي الرقيعي”. عند عودتي إليه، أخرج من جيبه الداخلي مغلفاً رقن على غلافها اسمي مسبوقاً بلقب “أستاذ”. تشوشت بوصلتي للحظات، ولم أدر إلا والشاعر “علي صدقي عبدالقادر”، يسلم مغادراً.

عندما فضضت الظرف، وجدت بداخله رسالة بخطه –المميز-، يشركني فيها على تقديمي لنصه (مدينتي.. اسمها طرابلس الحب)، الذي نشر بصحيفة الشط4.

في إحدى زياراتي لمكتبة المعارف، وبعد حديث مع عمي “رجب الوحيشي”، سحب من الرف خلفه، رسالة وضعها فوق حزمة الجرائد والمجلات، وهو يقول:

– يسلم عليك الأستاذ “علي صدقي”.

لم تخطئ عيني طريقة الرقن لاسمي، ولا شكل المغلف، كأنه هو من 6 سنوات، لكنه هذه المرة، ليشكرني على (عندما يعيد الشاعر ترتيب بيته)5، وهي مقاربة لتجربة الشاعر في جزأين نشرت بالملحق الثقافي لـ(صحيفة الجماهيرية).

بذات المكتبة، التقيت الشاعر قبل مغادرتي إلى (نيوكاسل)، تمشيت معه قليلاً، لم نتحدث عن الشعر، إنما عن الحاسوب ونشر الشعر عبر الإنترنت. عند باب سيارته، سلمت عليه وأخبرته أني أسافر قريباً للدراسة، وأن موعد سفري لم يحدد بعد. ودعني بابتسامة، وراقبته كيف اندس في سيارته، وهو يمرق بها في (شارع الوادي) المزدحم.

رحم الله شاعرنا “علي صدقي عبدالقادر”. وأسكنه فسيح جناته.

______

هوامش:

1- علي صدقي عبدالقادر (قبل نومي، أشرب قصيدة.. وأرتب لعبي). صحيفة الجماهيرية_ العدد: 4199_ 9-10/01/2004.

2- رامز النويصري (عندما يعيد الشاعر ترتيب بيته). صحيفة الجماهيرية (الملحق الثقافي)_ العددان: 4692، 4698_ 12-13/8/2005، 19-20/8/2005.

3- علي صدقي عبدالقادر (صرخة) شعر_ لبنان 1965.

4- رامز النويصري (طرابلس والابن البار). صحيفة الشط_ العدد: 484_ 03/08/1999.

5- الهامش رقم 2.

نشر بموقع صحيفة ليبيا اليوم

عودة الشاعر لحضن معشوقته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *