بين التغريبة والسيرة ونفض الفوضى

كتاب (تغريبة بني هلال)، للدكتور الصديق بودوارة
كتاب (تغريبة بني هلال)، للدكتور الصديق بودوارة

سيرة بني هلال؛ من السير التي أخذت بلبي منذ او تماس بيننا، وكان ذلك منذ زمن، عندما سمعت بهذه التغريبة أو السيرة من والدي ذات أمسية، وما التمسته من حكايات موزعة في ثقافتنا الشعبية، وبعض الأمثال، ومسلسل تابعت بعض حلقاته على تلفزيون قاريونس!

وخلال حياتي ومطالعاتي، كانت السيرة الهلالية أو التغريبة تطالعني هنا وهناك، وتستأثر بي لبعض الوقت، ومؤخراً نشرت على حسابي على الفيسبوك، آخر هذه المتابعات من خلال محاضرة تابعتها على منصة اليوتيوب لباحث سعودي، عكف على دراسة السيرة لأكثر من 20 عاماً!

وها هي السيرة تعاود الظهور من جديد، من خلال كتاب مختلف، ومصدر الاختلاف نرصده في أكثر من مستوى، مستوى أول: كون مؤلف الكتاب أديب له إسهامه المؤثر إبداعياً في القصة والرواية والسرد، ومستوى ثان: كونه دخل بستان التاريخ من باب العلوم الزراعية، وأخيراً: كون مؤلف الكتاب يبحث عن الجديد في كل ما يكتب، وهذا ما يجعلنا نتوقع الكثير من الكتاب.

الكتاب جاء بعنوان (تغريبة بين هلال، فوضى النص أم نص الفوضى) للكاتب الصديق بودوارة المغربي، والصادر عن دار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، العام 2023م.

الدخول للكتاب

تبدا مادة الكتاب، بداية من الصفحة 7، التقديم، والذي لا يمكن تجاوزه، لفهم ماهية الملحمة، وأهميتها، ومراحل الملحمة. أم لماذا افتتح الكاتب تقديمه بذكر ملحمة أوروبية، فيجب الكاتب نفسه بالقول: (ربما يرجع السبب إلى رغبتي في أن أوضح أن بنية الملحمة ونسيجها يكاد يكون متشابها في نواح كثيرة، وسواء كان البطل هو “رولاند”، أو “أبوزيد الهلالي”، فالمشروع النهائي للملحمة هو مشروع واحد، إنه مشروع يهدف إلى أن الملحمة كيان هلامي يتمدد في الجغرافيا والخيال والعاطفة والتاريخ معًا، ويتمحور هذا المشروع في الغالب على بطل واحد رئيسي تحيط به مجموعة من الشخصيات التي تتفاوت في أهميتها وتأثيرها، لكن العقل الجمعي الصانع للملحمة يحرص في كل الظروف على كونها تصب دائمًا في مصلحة وخدمة وضمان توهج شخصية البطل الأساسي الذي لا تستقيم الملحمة إلا به)1.

وبشكل مباشر، يقصد الكاتب، الصديق بودوارة إلى هدفه، في أحقية الحضارة الإسلامية بأن تكون لها ملاحمها، لما لها من عوامل استحقاق أكثر مما لدى الأمم الأخرى، مفصلاً في ذلك هذه العوامل من حضور الشخصية البطلة، إلى الجغرافيا، إلى الوقائع التاريخية، والتأثير الاجتماعي للملحمة.

التغريبة والسيرة

تتجلى أولى محاولات قراءة بودوارة، من خلال التفريق بين مفردتي (التغريبة والسيرة)، محاولة منه لوضع حدود واضحة لحدوة الرواية وحدود السرد الشعبي في متن هذه الملحمة، معتبراً أن (السيرة) هي الكل أو الحكاية الكبرى / الملحمة، وأن (التغريبة) هي الجزء، أو فصل من فصول السيرة. ويدعم هذا أن جغرافيا السيرة الهلالية تمد من بلاد نجد إلى المغرب، بينما التغريبة، فهي تتناول المرحلة الأخيرة، والتي بدأت في نجد لتنتهي في تونس.

ثم يتوقف الكاتب مع تجارب توثيق هذه السرة، من أمثال الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي، وتجارب البحاث في الخليج والمغرب، ثم متوقفا مع تجربة الدكتور علي برهانة، وهو من خلال هذا الطرح يلمح إلى غياب توثيق التغريبة الهلالية باللهجة الليبية في عمل بحثي، بينما وثقت فنياً من خلال الأغنية، وخاصة تجربة الشاعر عبدالله منصور، والفنان الراحل محمد حسن، ومن خلال الإذاعة المسموعة، فيقول: (وكذلك لن أغفل الاشارة إلى الجهود الاذاعية التي بذلت في تقديم برنامجين إذاعيين مسموعين هما “سيرة بني هلال” الذي أعده لإذاعة بنغازي الاستاذ “عبد المولى الحسنون” وقدمه الاستاذ “محمدالشوبكي” و”وصايا شيحة” الذي أعده وقدمه لإذاعة الجبل الأخضر المحلية الاستاذ عبد الله سليمان المطرطش”.)2.

لماذا هذا الكتاب؟

يجيب الكاتب على هذا السؤال بقوله: (ولعل هاجس الانتماء إلى وطن، وسر التعلق بتراب، ونكهة التغني براية ونشيد وعاطفة، لعل هذه الطواطم الخالدة هي ما دفعني إلى الالتحاق بركب طويل من كثاب التغريبة الهلالية لعلي أتشرف بكتابة ولو سطر واحد في سفر عظيم يؤرخ لملحمة هي الأكثر ثراء من غيرها على مر العصور)3.

أما عن منهج الدكتور الصديق بودوارة في هذا الكتاب فيقول: (سيكون الاهتمام الأكبر باستقراء النصوص وليس بروايتها، وسيكون التركيز الأهم على خلفيات النص لا على النص نفسه، دون أن أهمل التحليل على حساب السرد، ودون أن أغفل عن مقارنة الحدث في التغريبة حسب روايتها شعرا باللهجة الليبية بمثيله في التغريبة حسب روايته شعرا بغيره من اللهجات، هذا إذا كان ثمة اختلاف في بنية هذا الحدث، كما وقع بالفعل في رواية المصير النهائي لأبطال التغريبة الثلاثة الأشقاء، يونس ومرعي ويحي، بالإضافة إلى غير ذلك من أحداث)4.

ويضيف: (سأرويها شعرا، وسأتتبع كل حدث، وسوف أتقصى صحة الحدث تاريخيا، أو مدى إيغاله في غياهب جب الخيال الذي لا قرار له. وسوف اقتصر في رواية بدن الملحمة على الشعر باللهجة الليبية، ولكن ربما سأقارن حدثا بحدث فاستعين بنص من الشعر باللهجة الخليجية أو المصرية أو خلافهما)5.

أما السيرة شعراً فيرويها بودوارة، كما سمعها من أبيه -رحمه الله-، الرواية ” ابريك سليمان المبروك بودوارة المغربي”، وأما القراءة فهو يجتهد، فإن تكون قراءة نقدية منتجة.

السيرة الهلالية

يفتتح الكاتب روايته وتعليقه على السيرة بإجابته على سؤال: أين هي الحقيقة التاريخية من كل هذا الخيال؟

وتأتي الإجابة مباشرة، بإثبات التاريخ 440 هـ/ 1048م، تاريخ انفصل المعز بن باديس الصنهاجي عن الدولة الفاطمية، الذي حرك الخليفة الفاطمة في مصر، فكانت النتيجة الإيعاز لبني هلال وبني سليم بالتحرك نحو المغرب.

لكن من هم بنو هلال.  كيف وصلوا إلى مصر؟ فيعود بنا الكاتب إلى كتب التاريخ للإجابة عن هذا السؤال، وبشكل خاص ما قاله ابن خلدون عنهم! محاولاً رسم صورة عامة عنهم والمشهد من حولهم، لكن أمام قوة السيرة المروية، وخروجاً من كتب التاريخ، يقول الكاتب: (لنتذوق هذا العمل الأدي الرائع إذن، ولكن، لنترك التاريخ وشأنه، فهو لا يصدق حرفا واحدا مما سنستمتع به في هذا الكتاب.)6.

ما قبل الرحلة

بداية من الصفحة 23 وحتى الصفحة 56، يعرض الكاتب الجزء الأول من سرد الرواية الليبية لتغريبة بني هلال، ما قبل الرحلة الأسطورية، والتي يقسمها على ثلاث عناوين:

البداية – ميلاد البطل (ص: 23).

مقدمة التغريبة (43).

ملحمة السفر (51).

وفي هذا الثبت، تتبع الكاتب الصديق بودوارة النص الشعري، من خلال القراءة المدعمة بالتحقيق التاريخي، الذي وإن كان محاولة إثبات، إلا أنه من ناحية يسعى لمنح هذه السيرة بعداً ثقافيا وأثراً ويحاول رسم معالمها بعيداً عن التشويش وما تعرضت له من إهمال، فالكاتب من الواضح أنه يسعى إلى رسم هذه الحدود وتشذيب الصورة وتأكيد أحقيتها كسيرة بأن تكون ملحمة منافسة!

وبشيء من التفصيل، وتحت عنوان (علامات استفهام) يتناول الكاتب ثلاث علامات مهمة، ومؤثرة في متن السيرة، سواء على مستوى الحقيقية التاريخية، أو مستوى السرد، وأثرهما الثقافي، وهذه العلامات هي:

مفهوم النسب (ص: 57).

مفهوم السبب (ص: 65).

مفهوم الرومانسية (ص: 75).

وهو -أي الكاتب- مع كل وقفة يفصل في المسألة ويعرض لها بالقراءة والنقد، لنكتشف الكثير مما غفلنا عنه خلال استمتاعنا بهذه السيرة، وهنا نقف على الوعي الذي انتج به الكاتب هذا المتن.

الرحلة الأسطورية

قبل الانتقال للجزء الثانية من التغريبة، يتوقف الكاتب الصديق بودوارة، مرة أخرى، ليؤكد استئثار شخصية “أبوزيد الهلالي” بالسيرة، كونه العمود الفقري لها، وأن التغريبة فقدت الكثير من زخمها بمجرد مقتله، على يد غريمه “دياب بن غانم”، يقول: (ورغم تعدد الروايات إلا أنها جميعا اتفقت على أن نهاية أبي زيد لن تحدث إلا في الأمتار الأخير من التغريبة، فليس ممكنا للجسد أن يتحرك من مكانه بعد انهيار عموده الفقري إلا زحفا كما جرت بذلك المقادير.)7.

وهنا يمكننا أن نفهم الغاية من العنوان الفرعي للكتاب (فوضى النص أم نص الفوضى)، وهي الفوضى التي أحدثها الرواة، من خلال التركيز على شخصيات دون غيرها، وأحداث دون غيرها، وفي المقابل، أم إن النص؛ والقصيد السيرة، هي من كانت السبب في إحداث هذه الفوضى، فنحن من موقعنا نفتقد للكثير من الوسائل التي تصلنا بمصادر هذه السيرة.

الوقفة التالية للكاتب ستكون مع (نساء التغريبة)، بداية من الصفحة 88، حتى الصفحة 91، لنجد أنفسنا أمام استدراك الكاتب: ولكن ماذا عن الجازية؟، لنكتشف إنه ترك ذلك للجزء الثاني، وأن مادة الكتاب انتهت.

في انتظار الجزء الثاني

في انتظار الجزء الثاني لهذه السيرة، أسجل بعض الملاحظات:

أولها، الإشارة إلى أهمية هذا الكتاب كونه إضافة مهمة للثقافة الليبية، من خلال تسجيله هذه الرواية الشعبية المهمة، وتحويلها من الرواية الشفوية إلى الرواية المثبتة.

وثانيها، تعدى جهد الكاتب تسجل الرواية، إلى البحث العلمي التاريخي، وتتبع مسيرة هذه الملحمة، والوقوف على أهم الأحداث والمفاصل فيها، وشرح نصوصها وتسليط الضوء على المناطق المعتمة من المشهد. وفي ظني إن هذا الجهد مهم وبأهمية السيرة ذاتها.

ثالث الملاحظات، الهوامش التي شغلت جزء مهماً من متن الكتاب، وحوت الكثير من المعلومات ذات الأهمية للسيرة، أغنت الكتاب بشكل كبير.

الملاحظة الرابعة، وتتعلق بتحرير الكتاب، فلم تحمل بيانات الكتاب أي إشارة لكون الكتاب هو الجزء الأول، وهو ما أكدته جملة الكاتب في الصفحة 91، بقوله: (ولكن، ماذا عن الجازية؟ سأترك الجازية لأفتتح ها الجزء الثاني، فهناك الكثير من النفائس في كنز التغريبة لم نطالعها معا بعد)8.

آخر الملاحظات، هي أمنيتي لو كان الكتاب يتضمن كامل السيرة، لتكون المتعة أكبر.

شكرا أخي وصديقي الصديق بودوارة.


هوامش:

  1. الصديق بودوارة المغربي (تغريبة بين هلال، فوضى النص أم نص الفوضى)، دار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، العام 2023م.
  2. المصدر السابق، ص: 14.
  3. المصدر السابق، ص: 14.
  4. المصدر السابق، ص: 15.
  5. المصدر السابق، ص: 16.
  6. المصدر السابق، ص: 22.
  7. المصدر السابق، ص 86.
  8. المصدر السابق، ص 91.
بين التغريبة والسيرة ونفض الفوضى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *