سيرة غيريّة
تتجاوز السيرة الأدبية لأي مبدع، مهمة التعريف والسرد الوثائقي لها، لتصل مناطق أبعد، تكشف خلفية المبدع الثقافية، والمؤثرات المباشرة في تكوينه، وأيضًا علاقته بالمجتمع، ومدى تأثيره فيه، كما إنها مصدر إلهام للأجيال التي تبحث عمن يضيء لها المناطق المعتمة من التجربة الإبداعية.
ويمثل صدور كتاب في السيرة الأدبية، أو الإبداعية لأحد المبدعين، يعد إضافة مهمة للمكتبة الليبية، التي تشكوا فقرًا واضحًا في هذا المجال، سواء كتب السيرة التي سطرها أصحابها بذاتهم، أو السيرة المكتوبة بأقلام من جايلوا المبدع ورافقوه.
السيرة الغيرية، هو المصطلح الواصف لهذا العمل، وهي نوع من الأدب تمثل سيرة حياة شخصية معينة، والتي تُكتب عادةً بواسطة شخص آخر، ويعتبر هذا النوع من الكتابة، سيرة غير خيالية، وتهدف إلى إعادة تمثيل حياة الشخصية المختارة، من خلال منظور تاريخي أو شخصي للمؤلف، وهي تعتمد على مصادر متعددة مثل الوثائق المكتوبة والشفهية والصور والأفلام.
الكتاب الذي نتوقف عنده في هذا المقام، يصنف تحت كتب السيرة الغيرية، فالشخصية التي تناول الكتاب سيرتها، أحد العلامات الإبداعية المهمة في الشعر الغنائي، والكاتب إضافة إلى كونه صديق مجايل، فهو أستاذ جامعي متخصص في التاريخ.
وبشكل مفصل، الكتاب هو (مطلوق سراحك يا طوير)1، وهو يسجل في 162 صفحة من القطع المتوسط، سيرة الشاعر الغنائي الراحل “فضل المبروك”، أما الكاتب فهو الكاتب “د. الناجي الحربي”.
الكتاب وذكاء اختيار العنوان
منذ اللحظة التي تطالع فيها العنوان، تستدعي ذاكرتك بشكل مباشر صوت الفنان الراحل (محمد حسن)، وهو يتغنى (مطلوق سراحك يا طوير / وين ما تريد تعدي تعدي)، وهو في ظني ما قصد إليه الكاتب من اختياره لهذه الأغنية لتكون عنواناً للكتاب، وهي الأغنية ذات الحضور الكبير في المجتمع الليبي، بفضل بعض الحكايات التي أثيرت حولها، وحول توقيت بثها، وغناء الفنان (محمد حسن) لها!
بتجاوزنا لعتبة العنوان، تطالعنا مقدمة الدكتور “الصديق بودوَّارة” المعنونة (علامات استفهام فضل المبروك)، التي تعرفنا من خلالها المبدع والإبداع وتأثيره في المجتمع، من خلال علاقة المبدع بالسلطة!
السيرة الثبت
مع وصولنا الصفحة 12، نبدأ الدخول لمادة الكتاب بـ(بكائية للشعر الغنائي) التي سطرها الحربي بكل حب ووفاء.
ولأن صاحب السيرة من فرسان الأغنية الليبية، اختار الكاتب أن يكون فن الغناء والأغنية، مدخلاً للدخول إلى علاقته بالأغنية والظروف التي صاحبت دخوله إليها. لنبدأ التعرف إلى فضل المبروك -صاحب السيرة- بداية من ميلاده في 1946م، في مسّة (أم الداليا)، حتى تاريخ انسحابه من الساحة الفنية.
ما يميز هذه السيرة التي اختطها الكاتب الدكتور الناجي الحربي، أنا لم تكن سيرة غيرية، بقدر ما وثيقة تاريخية وثقافية للأغنية الليبية، فهي سيرة تعدت الشخص إلى العوالم التي عاشها والأحداث التي جايلها وأثر كل منها في الآخر. في هذا السيرة سنكون على كسافة قريبا جدا من تاريخ الأغنية الليبية، وتاريخ الفاعلين فيها على صعيد التألق والتلحين والغناء، كما استطاع الحربي أن يجعلنا نعايش الكثير من المشاريع الغنائية والعلاقات الإنسانية التي جمعة المبروك برواد عصره، حتى إننا نستحضر الكثير من المشاهد خاصة ما يتعلق بحفلات الخيمة الغنائية.
حكاية رحلة نغم
من الثابت، انه عند ذكر الراحل، صاحب السيرة الشاعر فضل المبروك، تذكر رائعته الغنائية (رحلة نغم)، التي حظيت بجزء مهم من سيرة الراحل، ومن اهتمام الكاتب، باعتبارها علامة مهمة في تاريخ الأغنية الليبية، كونها عمل وطني، في شكل رحلة طافت المدن والقرى الليبية، فتناول الكاتب تاريخها ومعايشة الراحل لحروفها وتنفيذها. إضافة لبعض الوقفات الغنائية المهمة.
والجميل في هذه السيرة، إن الكاتب لم يغفل النص، الذي كان حاضرًا بقوة، شاهدًا على إبداع شاعرنا فضل المبروك، مما يجعل القارئ يستحضر هذه النصوص مغناة، بل وكما حدث معي في كل مرة، أجدني من يتغنى بالنص.
كما عرفتنا هذه السيرة بالكثير من الشخصيات التي رافقت رحلة الشاعر الراحل، من موسيقيين وشعراء وشخصيات عامة، خاصة الفنان الكبير محمد حسن.
شهادات وكلمات
يمكننا اعتبر إن الكتاب مقسم على ثلاث أجزاء، يمثل الجزء الأول من ماته سيرة الراحل، الشاعر فضل المبروك -رحمه الله-، أما الجزء الثاني، فجمع فيه الكاتب، الدكتور الناجي الحربي، مجموعة من الشهادات والكلمات في حق الراحل، عكست كل منها زاوية من زواياه وقرأت إبداعه بطريقة مختلف.
هذه الجزء من الكتاب جمع 16 نصاً، لمجموعة من الأدباء والكتاب والفنانين والأصدقاء، قدموا الراحل كما عرفوه من خلال كلماتهم، التي جاءت مرتبة كالتالي:
مطلوق سراحك يا اطوير (قراءة لنص مناوئ) / جمعة الفاخري.
طائر الشعر الأنيق / جمال الزائدي.
رحلة ألم / عبدالحميد بطاو.
اطلق طير وغنيله/ أحلام المهدي.
صانع الجمال/ مفتاح الشاعري.
شاعر المدن الليبية/ مصطفى السعيطي.
لم يكن كأحد/ محمد اسويسي.
فضل المبروك/ الشريف بوغزيل.
أبو الملاحم/ سيف النصر.
رحلتي مع فضل/ خالد لطفي.
فضل الجبل الأخضر/ علي محمد الحاسي.
رحلة نغم.. وعرابها العظيم/ عبدالرحيم علي بوحفحوف.
جبل الشعر/ أحمد العبرة.
هذا ابن أم الداليا كما عرفته/ سعيد مفتاح شناني.
رحلة فضل (شعر)/ عبدالسلام الحجازي.
يا خسارتك يا فضل (شعر)/ بدرية الأشهب.
تجول الخواطر (شعر)/ سالم الكواش.
ختامًا
الجزء الثالث من الكتاب، ضم مجموعة من الملاحق، بدأت بالمحلق الأول الذي خصصه الشاعر لكلمات رحلة نغم، بخط الشاعر الراحل سليمان الترهوني، الملحق الثاني عرض للوحة من إبداع الراحل، قام بإهدائها للكاتب. اما الملحقين الثالث والرابع فهي لكلمات اغنية ورسالة خطها الشاعر لرفيق دربه الفنان محمد حسن. الملحق الخامس -والأخير- فعرض لمجموعة من صور الراحل فضل المبروك، الشخصية وصحبة الأصدقاء في مناسبات مختلفة.
الكتاب إضافة مهمة للمكتبة الليبية، كونه يسلط الضوء على أحد الشخصيات الفنية الليبية التي أضافت للأغنية الليبية، والشعر الغنائي، ويسد ثغرة مهمة في كتب السيرة الغيرية التي تعاني منها مكتبتنا الليبية.
تحية للكاتب الدكتور ناجي الحربي هذا الإنجاز، والشكر موصول لدار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، هذا الجهد المميز.
1- الناجي الحربي (مطلوق سراحك يا طوير، سيرة وأشعار الشاعر الراحل فضل المبروك)، دار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، 2023م.