شاطئٍ رابع!!
ترتبط هذه الجملة، كما بقية جيلي، بما تعلمناه من خلال دروس التاريخ، وما كان يبثه الإعلام الليبي عبر برامجه الإذاعية والتلفزيونية، وما وصلنا من خلال تكرار عرض شريط الخيالة1 (أسد الصحراء – عمر المختار)؛ من إن إيطاليا الدولة الاستعمارية كانت تنظر إلى ليبيا كـ(شاطئ رابع) يحقق أهدافها الاستعمارية الفاشية (أو الاستدمارية)2 في توسيع نفوذها والظفر بحصة لها!
لكنها وجدت أمامها شعباً صلباً يرفض الضيم والحياة ذليلاً، فقاوم تحت راية الجهاد، الذي توقف لتبسط إيطاليا يدها على كل ليبيا3، وتنطلق في جلب مواطنيها للعيش في ليبيا من خلال توزيع المزارع والمساكن والإقطاعيات لتحقيق هدفها التوسعي من احتلال هذه البلاد.
الشاطئ الرابع!!
بغض النظر عما يعنيه مصطلح (الشاطئ الرابع)؛ كما في وقفتي الأولى، فإنه بين يدي الآن كرواية4 في أكثر من 420 صفحة، للكاتبة البريطانية “فرجينيا بايلي” وترجمة الأستاذ “فرج الترهوني”، صادرة عن دار الفرجاني العام 2021م، التي تهتم بكل ما يختص بالشأن الليبي عالمياً وتقوم على تقديمه للقارئ الليبي والعربي، فقدمت للمكتبة عديد الكتب التي تناولت التاريخ الليبي قديما وحديثاً، وما يتصل بالشأن السياسي والاجتماعي.
كلاب ضالة!!!
تبدأ الكاتبة “فرجينيا” روايتها بوصول الفتاة الإيطالية “ليليانا كاتانيو” إلى ميناء طرابلس في العام 1929م، بعد رحلة بدأت من ميناء نابولي واستمرت لأسبوع، ضمن مجموعة من المستوطنين الإيطاليين. حيث كان أخوها “ستيفانو” في استقبالها، لتبدأ رحلة تعرفها إلى (صندوق الرمال الكبير) كما يسميها الإيطاليون، ليجيب “ستيفانو”: (حسنا، هم على حقّ، لكن هذه المنطقة استثناء. إنها واحة مزروعة، ومعظمُ البلاد صندوق رمال)5.
وأنتقل بكم مباشرة إلى فصل (كلاب ضالة)، وهو مصطلح يحمل دلالة خاصة عند الليبيين، فهو الوصف الذي أطلقه نظام القذافي على معارضيه، في ثمانينيات القرن الماضي. حيث يبدأ هذا الفصل، ومعه تبدأ أحداث الرواية بقصاصة من صحيفة (لاريبوبليكا) بتاريخ مايو 1980م، تحوي خبراً عن محاولة اغتيال ناشطين ليبيين في روما.
لنكتشف إن “ليليانا” الفتاة الإيطالية، تعيش الآن في بريطانيا؛ أرملة تقدم بها العمر، وقد فقدت الكثير من مهارتها في التحدث بالإيطالية. وهكذا استطاع خبر (الكلاب الضالة) إعادة “ليليانا” إلى جذورها الإيطالية، وإلى حياتها في ليبيا.
طرابلس البيضاء!!
تتعرف “ليليانا” إلى ليبيا من خلال رسائل شقيقها “ستيفانو” الذي يصف طرابلس من خلال مبانيها البيضاء، وقلعتها (السراي) والخليج الذي تطل عليه المدينة. و”ستيفانو” رحل إلى طرابلس حيث سباقات السيارات كونه مختص في السيارات وحلبات السّباق، وعبر رسائله أيضا ينقل لها ولأسرته مشاريع البناء التي تعرفها طرابلس التي تتكئ على صحراء واسعة ممتدة.
استطاعت رسائل “ستيفانو” أن تنقل الكثير من الصور والمظاهر الاجتماعي التي يعايشها في طرابلس؛ حيث (عن الأسواق مثل سوق الصاغة، واللحوم، والخبازين، والنسّاجين ومعدات نولهم اليدوية، والخرّازين، و الدباغين)6. كما تحدث (عن صانعي الشموع، وعن بائعي العطور الذين يجوبون هذه الأسواق المزدحمة)7، كما نقل لهم “ستيفانو” (غياب النساء المحليّات، وإن وُجدن أصلا، تظهر المرأة مغطّاة برداء أبيض من رأسها إلى قدميها، عدا فتحةٍ تمكّن عينا واحدة من الرؤية)8. وعبر أحد الرسائل الموجهة لأخته نعرف إنه تزوج من فتاة ليبية (محلية) اسمها (فريدة) فهو يشعر بالوحدة ووصل إلى عمر مناسب (هي صدمةٌ إلى حدّ ما، ولكن تعلمن فقد وصلتُ العمرَ المناسب، ولا توجد أي فتيات إيطاليات هنا؛ كلهن متزوجات، وأتينْ مع عائلاتهن، أو هناك أخريات مولعات بالتفاخر، واللاتي يفضلن من يرتدون البدلات. ولا يقصدن طبعا بدلة العمل الملوّثة بالزيوت. كلا ليس هذا النوع من البِدل)9.
هكذا بنى “ستيفانو” أرضية جاهزة لأسرته وأخته “ليليانا” على وجه الخصوص، للتعرف إلى هذه المدينة، لذا بعد أربع سنوات من وجوده بها، وصلت أخته بمعرفة سابقة، وهي تحتاج فقط إلى مطابقة من سمعت بما ستشاهد.
نحن الآن نعرف العلاقة بين الأخوين “ليليانا” و”ستيفانو” وتعلقهما ببعض، وكيف إن الأخت في انتظار أخيها ليخرجها من وحدتها التي تعيشها وحياة البؤس التي تحيطها. وهنا ندرك ما تعنيه طرابلس (أو ليبيا) لهذه الفتاة الإيطالية من نابولي؛ إنها الخلاص!
حكايتان في رواية!!
الكاتبة “فرجينيا” في روايتها (الشاطئ الرابع)؛ استطاعت أن تمكننا من متابعة حدثين متوازيين (حكايتين) يجمعهما محور (ليبيا)، وتفصل بينهما أكثر من نصف قرن، عرفت فيها ليبيا و”ليليانا” الكثير من التغيرات وعلى جميع الأصعدة، وكأننا نشاهد فيلمين يؤرّخان لليبيا ما قبل وما بعد، حيث ندرك وجه ليبيا القديم إبان الاستعمار الإيطالي وتسجيل للمشاهدات اليومية، التي تشمل الحياة الاجتماعية والسياسية، وقفزة إلى ثمانينيات القرن الماضي حيث ليبيا من بعد الاستقلال، وتولي “معمر القذافي” مقاليد السلطة ومطاردته لمعارضيه.
وقد استطاعت الكاتبة أن تبني علاقة قوية بين الحقيقي والخيالي؛ والخيالي هنا بمعنى المبني على أساس واقعي أو حقائق، لذا يصعب في بعض المناطق من أحداث الرواية الفصل بينهما، وتحديد ماهية ما إذا كان الحدث أو المعلومة حقيقة أم من بنات أفكار الكاتبة؟ وهذا يعكس حرص الكاتبة في البحث وتقصي وتتبع كل التفاصيل، وهذا يظهر على سبيل المثال؛ من خلال القصاصات أو (المادة) التي تعبر عن حدث حقيقي سواء كان خبرا صحفياً أو بطاقة بريدية موجودة.
أيضا هذا الحرص ينعكس في التفاصيل الكثيرة التي احتوتها الرواية، من الأجزاء الكبيرة إلى الأجزاء الصغيرة، والأسماء والرموز والعادات والحياة اليومية سواء في إيطاليا أو ليبيا وحتى بريطانيا. إنها رواية فصلت الحياة في ليبيا بكل صورها بامتياز.
رواية سياسية
(الشاطئ الرابع) رواية تتعلق بليبيا موضوعا، وهي تعكس صور معاناة الليبيين (كشعب) إبان الحكم الفاشي الإيطالي ومن بعد نظام القذافي. في مقارنة (أو مقاربة) تركز على مسألة كيف تحاول السلطة تحقيق طموحها وبناء أمجادها على أكتاف أبناء الشعب الليبي، وهي تحرمه أبسط حقوقه، وتقذف به خارجا وتلاحقه!
(الشاطئ الرابع) رواية تبحث في التاريخ السياسي لليبيا من خلال قصة مستوطن إيطالي. رواية صادمة في جانبها الحقيقي، ماتعة في جنبها الخيالي. أحسنت دار الفرجاني بنشرها، وأبدع الأستاذ “فرج الترهوني” في ترجمته ونقلها إلى العربية بهذا الجمال.
1- الخيالة: هو المصطلح الذي كان متدولاً للتعبير عن الأفلام السينمائية خلال فترة الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات، حيث بدأ يختفي بالتدريج.
2- في فترة ما، قام نظام القذافي باستبدال مصطلح الاستعمار بـ(الاستدمار)، فقد كان يرى أن هذا الغازي جاء ليدمر، لا ليستعمر، وكأنه لم يرى ما أنجزته إيطاليا في ليبيا من مشاريع؟!
3- الحدود الجغرافية لليبيا التي تعرف بها الآن.
4- فرجينيا بايلي (الشاطئ الرابع)، ترجمة: فرج الترهوني – دار الفرجاني – القاهرة، ط1، 2021.
5- رواية: الشاطئ الرابع – ص 7.
6- المصدر السابق – ص 59.
7- المصدر السابق – ص 59.
8- المصدر السابق – ص 59.
9- المصدر السابق – ص 59.
10- المصدر السابق – ص 66.