لم يكن يميز عمي “عمران” عن بقية الرجال الذي يمرون بشارعنا إلا بشكليطته البيانكي1 التي كان يدخل بها الشارع عشية كل يوم من أجل الحصول على حصة الحليب من سانية الكرداسي2. ابتسامته التي لا تفارق وجهه، شارباه الرقيقان المحفوفان، والمعرقة3 والشبشب الجلد، لا شيء فيه تغير مذ عرفته إلا أني هذه المرة رأيته يقطع حيّنا على قدميه في خطوات سريعة. لم يتذكرني عمي “عمران”، لكني تذكرت الكثير مما كان يحكيه لنا، سألته عن البيانكي، فأجاب:
– إيه.. خلاص، ما عادش وقتها.
(ما عادش وقتها)، في ذاكرتي صورة غير واضحة لساعي البريد على دراجته الهوائية، يقف في نهاية الشارع، يسأل عن أحد العائلات ليسلم لها رسالة، كانت (البيانكي) سوداء اللون، وعليها حقيبة جلدية مدلاة على مقودها، بنية اللون، في نفس لون معطفه. و(ما عادش وقتها) أذكر إن إحدى العائلات التي كانت تسكن قريباً من محل سكنانا بمنطقة شارع بن عاشور، كان كل أفرادها من الذكور يستعملون الدراجات في تنقلاتها، وكانت سوداء اللون.
حمراء، وعجلاتها بيضاء. كانت هذه دراجتي الهوائية (بشكليطتي) التي أهداني أبي بعد نجاحي في الصف الثالث (كما أذكر)، كنت أدور بها الحي وأنافس أولاد الجيران، في الدوران حول مربع الحي (شارعنا).
الدراجة كانت الحلم لأي صبي، كانت منتهى ما يتمناه من ألعاب، يحقق فيها انطلاقه وغايته في السرعة، حتى عندما عرض التلفزيون مسلسل (الجائزة الكبرى) أو كما كنا نعرفه (تكايا تدوروكي)4، تحولت الدراجات إلى سيارات سباق تمرق سريعاً وتسرق المنعطفات، نصطف جميعنا في خط واحد، يقوم أحد الأولاد بدور الحكم والمعلق في ذات الوقت، بينما كلٍّ منا يزمجر بما يمكنه من قوة مقلداً صوت سيارات السباق (غوووووررر – جوووووووووور)، ثم ننطلق. تاركين سحابة دخان خلفنا، وككل مرة لا نصل خط النهاية، لأننا سنتعارك عند ثاني منعطف. كنا نستعرض مهارتنا في القيادة، نتبارى في (التشنقيل) أو من يستطيع المضي أكثر مسافة على العجلة الخلفية، وكنت دائماً أفشل، أو القيادة بيدين طليقتين، أو استخدام رجل واحدة في إدارة ترس الدراجة.
رغم حبي للدراجات، إلا إنها سرقت أحد أعز أصدقائي، كنا بعد نحتفي بأحلامنا الصغير البسيطة، سيارة تتحرك بجهاز تحكم، صناعة (فليتشة) ذات مواصفات جيدة، الوصول بطريقة سهلة لشجرة التوت في السانية، كنت في المنزل عندما استقبلت الخبر (طارق مات)، لم أستوعب الأمر بداية، فقد كنت أظن إن الموت يأخذ الكبار فقط، لكن “طارق” الفتى النحيف الطويل، أهدل الشعر، بابتسامته العريضة، فلا، لكنه فعل. رحل “طارق” ورحلت دراجتي الحمراء، قال أبي: بنرفعها لعمك ابراهيم السكليستي يشوفها. وهو ذلك اليوم.
السكليستي هو الشخص الذي يقوم بتصليح الدراجات الهوائية، فهو يقوم بكل شيء، حتى إنه بالتوصية يقوم بتجميع دراجة لك. يقع محل عمي “إبراهيم السكليستي” بشارع بن عاشور، قريبا من (جامع عمورة)، والمسافة حتى بيتنا هي 5 دقائق راجلاً.
“السكليستي إبراهيم” كان يفتح ورشته صباحاً يصف الدراجات يمين ويسار المحل، بينما يكون نصيب الدراجات الصغيرة التعليق، بالورشة مصباح كهربائي واحد، وهي كالحة، بالكاد يمكن الحركة فيها، وكلما مررت سألت نفسي: كيف كل البشاكليط هادو يجوا ف الورشة؟.
دققت النظر في الدراجات الموجودة، ليست من بينهم، ولا ثمة شبيهة، هل قام بطلائها مثلاً، هل هي بالداخل، فلا يمكنني تبينها؟. لم أسأله، وعندما كانت ينتبه لتوقفي: هيه، شن تبي حاجة؟، أغادر مسرعاً.
ما يميز “عرادة” هو الراديو اللصيق لأذنه، والدراجة. كان يجوب شوارع المدينة4 جيئة وذهاباً بدراجته، متمايلا مع صوت المذياع، دون أن تغيب عن وجهه الابتسامة.
شخصية أخرى ارتبطت ذكراها بالدراجة “عمي شيتة” بائع الحلوى، الذي طوال دراستي بمدرسة (الفـيـحاء) كان مداوماً على الحضور والوقوف أسف سور المدرسة وبيع حلواه. حارة التوفي5 بعشرة قروش، وحلوى العصفور مثلها، كان يمد يده إلى داخل الكيس المثبت إلى الدراجة ويخرج ما نريد، لم أسمع له صوتاً، ولم نرى له سناً، كان يبتسم فقط، ثم يغادر وآخر التلاميذ.
عمي “نشنوش” عامل المقصف، كان يحضر على دراجته للمدرسة من (فشلوم)، ويحكم ربط عجلتها الأمامية بالسلسلة ويدخل المقصف، لإعداد شطائر التونة.
– نص وشيشة6 مشروب. ونمد له ربع الدينار.
– جيب الشيشة.
عندما نعيد قنينة البيبسي، كان يرجع لنا عشرة قروش.
عندما بدأت الدراسة بالجامعة، وجدت في أحد الجهات الخلفية بكلية الهندسة هيكلاً معدنيا، من النوع المستخدم في إيقاف الدرجات، يقول الحاج “محمد” أحد العمال بالكلية: هدا كان في البركيتجو7، وكان الطالب اللي يجي، يحط العجلة القدامية بتاع البشكليطة ويربطها، ويخش محاضرته.
ككل الأشياء الجميلة التي ارتبطت بذاكرتنا، وكانت علامة في حياتنا اليومية في مجتمعنا الليبي، اختفت الدراجة من حياتنا ومن دائرة اهتماماتنا، وبلكاد تلمح، صارت الدراجة لعبة أطفال مادون العاشرة، لأنه حال ما يشب، سينظر إلى الأهم. أخي لم يحلم بالدراجة، كانت السيارة هي الحلم والمنى. وتحقق.
___________________
الهوامش:
1- البشكليطة: الدراجة الهوائية. البيانكي: أسم لأحد أنواع الدراجات الإيطالية التي كانت تستخدم بشكل كبير في ليبيا.
2- السانية: الاسم المحلي للمزرعة الصغيرة، وكانت بذات الحي الذي نسكن. والكرداسي: اسم العائلة التي تملك هذه المزرعة. في نهاية بن عاشور، على عتبة شارع الظل.
3- المعرقة: أسم لأحد أغطية الرأس، وتصنع من القماش.
4- المقصود مركز مدينة طرابلس.
5- التوفي أحد أنواع الحلوى، مغطاة بغلاف فضي.
6- الشيشة: القنينة أو القارورة.
7- البركيتجو: موقف السيارات.
الشمس الثقافي-الإصدار الثاني-العدد:41-19/04/2010
آآآه يا زمن …سردك كان غاية في الروعة..عيشتنا لحظات في الزمن الجميل ..زمن البساطة والوئام والبراءة ..
أيا ليث الطفولة تعود يوما ..الطفولة التي تعني لي الحياة الحلوة الفرح السعادة البراءة البساطة والنقاء والنجاح .
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لاأبالك يسئم .
تقبل مروري ..وشكري ..نبيلة الصغيرة
سعدت بمرورك الكريم
ولك خالص التحيات