ليس دفاعاً عن (للجوع وجوه أخرى)، إنما مطالعة أولى فيما يثار
/1/
لو حاولنا وصف العلاقة بين الكاتب والمتلقي رياضياً، بمعنى محاولة وضعنا لشكل رياضي يصف هذه العلاقة، لوجدنا أنفسنا أمام متغير غير قابل للوصف أو التحديد ضمن أي حدود أو ضوابط، هذا المتغير لا يمكن أن تصفه دالة عشوائية، كون الدالة العشوائية هي أيضاً تدخل ضمن حدود تضبط هذه الدالة عن الخروج بشكل غير مضبوط.
هذا المتغير غير القابل للوصف، والذي نعرفه بالمتلقي يظل غير قابل للتأطير أو الدرس، وأعود بكم للوراء قليلاً، لأكثر من خمس سنوات عندما قامت الدنيا حول رواية الكاتب السوري “حيدر حيدر” ونعني روايته (وليمة لأعشاب البحر) التي صدرت ثمانينات القرن الماضي، حتى جاء أحد المحامين _من مصر_، وطالب بمصادرة الرواية حاشدا وراءه آلاف الأفواه المطالبة بمصادرة الرواية والكاتب، ووجه القضية تتلخص في مجموعة من التعابير والجمل التي رأى المحامي أنها تأخذ من الجلال الإلهي، والمرجعية هنا ذائقة المحامي ذاته. الطريف أن الرواية ظلت تتداول لأكثر من 15 عاماً قبل أن يطلع عليها المحامي، والذي إن مر في أي من شوارع القاهرة لسمع من الكلام ما يهتز له عرش الرحمن _وكلنا يعرف غنى قاموس العامية المصرية_، لكنه لا يملك إلا التجاهل، وإلا نال نصيبه. أما والأمر يتعلق برواية وأدب فالأمر يختلف.
/2/
رأيت أن أفتح هذا القوس، كإشارة مرجعية تاريخية _من قريب_ لموضوع يهم ساحتنا الثقافية الليبية، وأعني الأصوات المطالبة بمصادرة رواية (للجوع وجه أخرى) للكاتبة “وفاء البوعيسي”، وهي كاتبة شابة دخلت الحياة الثقافية من خلال القصة، وكانت الرواية نتاجها الأول المطبوع.
وبعيداً عن الخوض في مسألة الرواية الليبية، فإن هذه الرواية لا تضيف للمناخ الثقافي رواية جديدة تأخذ مكانه على الرف، إنما رواية تمثل في موضوعها نقلة نوعية في متن الرواية الليبية، وهذه النقلة تتمثل في:
– كون الرواية تتناول أحد الفترات التاريخية التي عاشها المجتمع الليبي في الثلث الأخير من القرن الماضي، ونعني القطيعة بين الجارتين ليبيا ومصر. وعلاقة الرواية الليبية بالتاريخ علاقة شائكة، فالرواية الليبية لا تعني برصد الأحداث التاريخية القريبة، ونعني التاريخ القريب في ذاكرة المجتمع، وأيضا الفترات المهمة في تاريخ المجتمع.
– وهذا يمنح الرواية بعدها الاجتماعي اللصيق بالذاكرة الشعبية (ذاكرة المجتمع)، وما تمثله هذه الفترة للمجتمع في بعديها:
* العام: في أثر هذه الفترة على المجتمع في شكل البلاد، هذا يعني الموقف السياسي، وتبعياته المترتبة على أفراد المجتمع. وتقدم الرواية رصداً لهذه المرحلة وأثرها في المجتمع في مجموعة من الظواهر والآثار.
* والخاص: كون بعض الأفراد تأثروا بهذا الأمر تأثرا مباشراً، إذ باعد هذا الحدث بين مواصلة بعض الأسر ذويها في القطر المصري، خاصة من الذين ارتبطوا بسيدات من مصر. إذ تحكي الرواية عن أحد هذه الأسر التي لم تتمكن من الاتصال بابنتها التي ظلت بمصر.
والكاتبة وهي تقدم هذا النص، كانت تعول بشكل كبير على الموضوع، خاصة وإنها حاولت أن تكون شجرة من الآثار النتائج، وتعمل من بعد على تنمية هذه النتائج والآثار، بحيث ركزت اهتمامها على شخصية النص (أو البطلة) وتابعت تطورها، كشخصية مستقلة، وكشخصية ترتبط بالمجتمع المحيط. وأزعم إن الكاتبة نجحت في تقديمها للموضوع، وهو ما عولت عليه، وخسرت في المقابل المتن، ونعني الرواية كمتن سردي، إذ استنفذ الموضوع وروابطه وشخوصه الكثيرة جهد الكاتبة، وأخرجها عن الرواية كسرد، كان يمكنه في الكثير من الأماكن الإضافة للنص، ومنح الحدث أبعدا أخرى، وأخص اللحظات الخاصة التي استعملت فيها الكاتبة المونولوج لبطلة الرواية، كما إن اللغة السردية كانت تستطيع تجميل الكثير من جوانب النص، وصدمنا أكثر بالواقع الذي عاشته البطلة خاصة عند وصولها ليبيا. وعلي أن أهنئ الكاتبة على هذا النص الذي أعتبره شخصياً نقلة في موضوع الرواية الليبية، خاصة وإنا نحتاج في مشهدنا الثقافي الليبي لنصوص تتعلق أكثر بفتراتنا التاريخية المؤثرة في حياة المجتمع. فالرواية في أحد وجوهها كتابة تاريخية.
/3/
من يملك الحق في طلب مصادرة هذه الراوية _ونعني رواية (للجوع وجه أخرى)_ أو غيرها من الإصدارات، فلو تحقق هذا المطلب من يضمن إلا تتحول هذه المطالبة إلى حق يتحول في أيدي البعض إلى آلة إرهاب.
من يملك الحق، ليقوم بفرض وصايته على المتلقي، والنيابة عنه في طلب المصادرة. ففي حال سلمنا جدلاً بشرعية المصادرة فإن من يملك الحق هم جمهور القراء الذين يمثلون المتلقي في عمومه، فلو اتفق الجميع على ضرورة إقصاء هذا النص أو مصادرته فلهم الأمر، أما أن يقوم أحد أو مجموعة بإقصاء رأي الكل (القراء/المتلقي) من أجل رأي تتحكمه ذائقة خاصة، هذا لعمري هو الباطل بعينه، حتى لو كان الأمر من باب الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الحقائق أكدت أن استخدام البعض لهذه الرخص إنما اعتمد ما قدره البعض وما استقر عندهم. وهو بالتالي نتاج ذائقة خاصة ومعرفة محددة في اتجاهها، لا ترى خارج الإطار، حتى وإن كان أكثر جمالاً.
إن الواقع يفترض أن صدور هذه الروية تم بإقرار إدارة الرقابة على المطبوعات، كونها الجهة الموكل إليها هذا الأمر، وهي كجهة رقابية تملك تنظر للنص الإبداعي نظرة خاصة، وتقيمه في كل أبعاده. وهي عندما أذنت بطباعة هذه الرواية إنما أجازت إصدارها، ووعت الرسالة التي حاولتها الرواية.
إن القاصر _لا أخص بها أحداً، بقدر ما هي استعارة للحال والوصف_ هو من يرى إن الرواية دعوة للكفر والإلحاد، فيشن هجمة يثير فيها غيرة المسلمين على دينهم، ودعوتهم للرباط، وحشد طاقاتهم من أجل يوم جمعة خاص متناسين قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)-الحجرات6. إن هذا القاصر لم يرى إلا الكلمات، لأنه لا يمكنه أكثر من مجارة السطور، دون الذهاب أكثر في النص وما يحمله من دلالات، وما يمكنه من إثارة للحصيلة المعرفية له كمتلقي أو ما يمكنه من إحداث مفارقات تحوله كمتلقي إلى أحد شخوص النص. هذه الإمكانات لا يستطيعها قاصر لا يقبل الحوار _حتى مع نفسه_، فهو يدخل للنص بحكم مسبق، ومن بعد يحاول إخضاع النص لحكمه، يقف عند جزء يقصيه عن الكل ليصدر حكمه. إن الفكر الإسلامي الصحيح النابع من قيم الإسلام الحقيقية، لم يرفض أفكار الآخر بل درسها واستفاد منها، وطوعها لخدمته، فالفكر الإسلامي لا يرفض الحوار ولا يترفع عن الفهم الصحيح.
إن الرواية التي يطالب أكثر من صوت بمصادرتها رواية في اسمها، فهي تقول: إن للجوع وجوه أخرى، وجوه غير التي نراها، إن فقد الأهل جوع، إن فقط الصديق جوع، إن فقد القدوة جوع، وهو المرتكز الأساس الذي بنت عليه القاصة “وفاء البوعيسي” روايتها، فالفتاة بطلة القصة فقدت اتصالها الطبيعي بالمحيط، أقصيت عنه وشوشت بوصلتها، فسقطت ضحية، والتمست الخلاص في الضوء الذي تسرب في نهاية الممر المظلم، لم تعنها الظلمة من حولها لتكتشف ماهية هذا الضوء، سارت إليه تنشد الخلاص لنفسها، والسبب موقف تاريخي انسحب على المجتمع، لتكون هذه الفتاة ضحيته.
هكذا يمكننا قراءة النص _لا أحاول فرض رؤية خاصة_ وإدراك معانيه وأبعاده، والوقوف بجانب بطلة الرواية ودعمها والدعاء لها _وهو أضعف الإيمان_، لا مهاجمة كاتبة النص ورميها بالكفر والإلحاد دون بينه إلا من نص، يقول عز وجل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)-النور4. ترى لو كان أحد الكتاب هو صاحب هذه الرواية أكانت تثار مثل هذه البلبلة من حوله، يقال إنه هو الفاعل.
/4/
إن كتابتي لهذه السطور، ليس دفاعاً عن الرواية في ذاتها، إنما دفاعاً عن حق الكاتب الليبي في الإبداع، وعن حق المتلقي في الاستمتاع بما يقدم له، لا فرض الوصاية عليه والحديث عن خطر يتهدده، هو في أصله قصور في الإدراك. لأنه لو تحقق مثل هذا الأمر فهي لعمري ثالثة الأثافي لمشهدنا الثقافي الليبي. مشهد يقاتل من أجل تقديم إبداعه ومبدعيه، مشهد بدأت براعمه تتفتح عن 100 إصدار وإصدار، بعد توقف نسينا فيه شكل الكتاب الليبي. مشهد غيبته الظروف سنوات وعاد يرفع عن وجهه الغبار. مشهد لن يقبل بهذا الإرهاب، ليقول: لا.
نيوكاسل: 09.12.2007