بين أنا الحقيقة.. وأنا الوهم!

كتاب (هذا أنا) للكاتب "علي باني".
كتاب (هذا أنا) للكاتب “علي باني”.

في تجربتنا الأدبية والثقافية في ليبيا، لم يكن للسيرة الذاتية حضورها القادر على إثبات وجودها على خارطة الأدب الليبي، وما توفر من نماذج منها، جاء نمطياً يرصد سيرة حياة صاحبها، توثيقاً ورصداً.

في الكتاب الذي بين يدي، قرر صاحبه أن يكتب سيرته بطريقة مغايرة، إن لم تكن مختلفة وخارج الصورة النمطية للسيرة، بعيداً عما تحتويه شهادة الميلاد من تاريخ ومكان، أو ما يمكن أن يخبرنا به المجالين، لتكون هذه السيرة؛ سيرة عقل وفكر، سيرة ممارسة العقل وتدبر في المعارف! ومنذ اللحظة الأولى، يأخذُ الكاتب بيميننا مباشرة صوب غايته (ها هي بما جمعت من أفكار عميقة كانت أو سطحية، وتعابير فصيحة هي أم عامية، تصيب بالدهشة أو الصدمة، تحفز التعاطف أو الاستقرار، تصور القبح أو الجمال، تظهر العيوب أو تخفيها، تبرز الأخطاء أو تنكرها، لا تخجل من كل ذلك، فترسم “أنا” الحقيقة، وتمحو من رحلتها “أنا” الوهم)1. 

إذن “علي باني”، الكاتب والمهندس والرياضي، يقول (هذا أنا) فكر ومجموعة تجارب.

الوجْدان

الوجدان أو سيرة الطيب، مفتتح ذكي لبداية الرحلة، بداية بعيدة في الذاكرة. شخصية وأحداث تم ابتكارها وبناء معالمها، يعيد فيها الكاتب بناء ذاكرته بما جمعت من مشاهد، وثقافة شعبية، ومنقولات وحكايات وأحداث تاريخية، جعلت من المشهد حقيقة، صنعها الوجدان، مزيج الروح والعقل.

بَوْح

في يقيني إن الكاتب، عن عمد اختار أن يكون عنوان هذا الفصل نكرة، بوح، بدل أن يكون العنوان معرفاً بألـ (البوح)، وهذا الاختيار يكشف نية مبيتة للابتعاد عن وجود منهجية أو تسلسل منطقي يمكنه -ككاتب- من التهذيب والتشذيب، بقدر رغبته في عرض الصورة بالكامل، كما في (الوجدان)، لذا فإننا في هذه المرحلة من الرحلة، علينا التعامل مع كل زفرة لوحدها، (بعضاً من آثار سذاجة طفولية جعلتني أرى في قناعةٍ وجهاً حقيقياً)2.

العَـقْل

وكأن “علي باني” يريد التأكيد أكثر على (أنا) الحقيقة، فاستأثر العقل -وهو معرفٌ هنا بألـ- بجل متن النص، (منذ أن عالجت إدمان الكتابة لدى مصحة متخصصة، علاجاً سحرياً فعلاً بسيطاً جعلني أتنكر لما كتبت ولم أتجرأ على المزيد، طريقتهم عبقرية وفي وصفة واحدة: القراءة)3.

في هذا المتن، يقدم الكاتب الكثير من الموضوعات، قصيرة ومكثفة، مباشرة وعميقة، تناولت العديد من الأفكار والقضايا المختلفة؛ ثقافية، سياسية، اقتصادية، وحصيلة قراءات مختلفة، تبلور رؤية الكاتب لهذه المسائل، وقراءته للوقائع، والواقع، وترصد أثر القراءة. 

كما يكشف هذا الفصل، إن الكتابة هي أحد متنفسات الكاتب، فهو لا يمارسها من باب الترف، إنما عن وعي بأهمية الكلمة ودورها، وقدرتها على الوصول، والمساعدة على تجاوز حالات الركود، والتعبير، والتحليل وصياغة الأفكار، (مرحلة الكتابة، كانت مخاضاً عسيراً، وإن أثمرت وليداً أشبه بما خلّفه مخاض الجبل)4، وعندما نعرف أن كاتبنا، “علي باني”، مهندس، يحيلنا هذا إلى فهم جزء من آلية الكتابة، التي تعتمد على التحليل للوصول إلى الهدف بأقصر الطرق، بحلول مغايرة، واضحة ومباشرة. 

وهو الوعي، الذي يجعله ينوع في أسلوب الكتابة، فيترك طاولة المهندس، بما تحمل من معادلات وأرقام، ليجلس إلى كرسي الكاتب، حيث مكتبته العامرة والمنوعة، من الرواية، إلى الشعر، إلى الفكر. وإن كان وهو فوق طاولة المهندس يجمع مواد الخلطة ويعاين نسبها، فإنه وهو يجلس إلى كرسيه، يجمع من صنوف الأدب والفكر، ويضبط حضورها بما يحقق الغاية من كتابتها.

الرُّوح

حيث يُخلص الكاتب هنا للروح، الروح المجردة من ماديات الجسد، وسلطة العقل، والمعرَّفة، المقصودة لتكون خمسُ قصصٍ قصيرة، اقتنصت خمس لحظات إنسانية، صورة الروح، عمقتها اختياره لثلاث لوحات أصر الكاتب أن تكون ملونة، وهي أيضاً محاولات لرصد هذه الروح بالخط واللون. لنجد إن الرحلة التي بدأت بالوجدان، في صورة الحكاية، انتهت بالروح في القصة القصيرة.

ماذا بعد؟!!

منذ اللحظة الأولى للدخول لهذا الكتاب، نجدها سيرة مختلفة، خارج السياق، لم تعمد إلى الرصد التاريخي، بقدر ما عمدت إلى عرض ما راكمته هذه السيرة من معارف وخبرات خلال تجربتها الحياتية، ولأنها الحياة، لا وجه واحد لها، جاءت مادة الكتاب مختلفة، معادلة تعتمد على متغيرين أساسيين؛ القلب والعقل، يتغيران على محور الحياة السيني، في مقابل إثبات النتائج، الوجدان، بوح، العقل، الروح على المحور الرأسي.

هي كتابة مختلفة، غير اعتباطية، مقصودة، خضعت كل جملة فيها لميزان المهندس قبل أن يثبتها قلم الكاتب، ويمررها إلى القارئ، فتصيب هدفها. كتابة حديثة، ترتكز على ثالوث؛ التكثيف (التركيز)، المباشرة، القصر. كتابة حديثة توافق متطلبات المرحلة.

هي أيضاً كتابة، حميمية، قريبة، تأسرك ببساطتها وعفويتها، واقتباساتها الشعبية، ومفرداتها العامية، وروح ابن البلد.

ختاماً…

هذا أنا.. للكاتب “علي باني”، كتاب يصلح لأن يكون حصة قراءة ماتعة للقراء من مختلف الأعمار.. حصة قراءة ماتعة!


1- علي باني (هذا أنا)، خاص، 2023م. ص 7.

2- المصدر السابق، ص 122.

3- المصدر السابق، ص 129.

4- المصدر السابق، ص 152.

بين أنا الحقيقة.. وأنا الوهم!

4 تعليقات على “بين أنا الحقيقة.. وأنا الوهم!

  1. أسعد الهادي يقول:

    علي باني .. إنسان بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
    وكتاباته مميزة وغير اعتيادية، من أيام صحيفة الشط.
    شكرا لكم ولهذا العرض الجميل للكتاب..

  2. أحمد محمود سالمي يقول:

    شوقتني لقراءة الكتاب
    يبدو أنه يحمل الكثير من الأفكار والقصص الجميلة

    أين يمكن الحصول عليه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *