اللهجة الليبية!
قليلة هي الموضوعات التي تناولت اللهجة الليبية، سواء الدراسات المتخصصة أو الكتابات والمقالات، ولا يمكنني تخمين سبب أو أسباب لهذا الضعف، ولكن ما يبشر بخير هو الكتابات التي تهتم باللهجة الليبية وتبحث في تأصيلها وأبعادها اللغوية الثقافية، ومنها الكتاب الذي نتوقف عندها في هذه القراءة وهو كتاب (طيح سعدك .. وأخواتها – رحلة عبر مفردات اللهجة الليبية)، للأستاذة “فريدة الحجاجي”، والصادر عن دار الرواد بطرابلس1.
اللهجة والهوية!
إن كانت العربية هي لغة العرب، فإن اللهجة الليبية هي لغة تواصل الليبيين فيما بينهم، وهي التي تعبر عنهم وعن ثقافتهم وتراثهم وإرثهم الحضاري، فاللغة ليست للتواصل فقط، إنما وسيلة لنقل الأفكار والمعارف والتجارب الإنسانية. لذا فإن الكاتبة في معرض تعريفها بهذا الكتاب اكتشفت إن تعليم اللغة العربية الفصحى لابنتيها لن يمنحهم الغاية من تعلم اللغة عند زيارة ليبيا، لأنهم سيكون مفصولين عن واقعهم ومحيطهم الاجتماعي والسبب اللغة، تقول الأستاذة فريدة الحجاجي: (ومن هنا انتبهت إلى أن اللغة الأم الطبيعية والتلقائية لطفلتي هي اللهجة الليبية وليست اللغة العربية الفصحى التي أحاول تعليمها لهن وتخيلت مرة أخرى منظرهما في ليبيا أثناء العطلة عند لقائهن حناهم (والدتي) ومخلطبتها بلغة عربية سليمة بقولهن: مرحبا أيتها الجدة، لقد أتينا لقضاء العطلة معكِ، هل أنت بخير وصحتك على ما يرام؟ وتخيلت كيف سيكون ردة فعل أمي إزاء هذا الموقف!!!)2.
ويكيبيديا اللهجة الليبية
(ويكيبيديا اللهجة الليبية) هو العنوان الذي اختارته الكاتبة لمشروعها الخاص برحلتها في مفردات اللهجة الليبية، التي وجدت فيها السلوى والانشغال وهي المريضة التي تنتظر انتهاء فترة العلاج. فققرت أن تدون ما يخطر في بالها حول اللهجة الليبية من مفردات ومصطلحات وتعابير شعبية، وتعلق “الحجاجي” على هذا العمل: (وللتغلب على الملل قررا نشر هذه الأفكار على صفحتي على الفيسبوك وابتكرت لها اسم (ويكيبيديا اللهجة الليبية)، لتمييزها عن بقية منشوراتي)3. ثم تستدرك “الحجاجي”: (لاكني في نفس الوقت خشيت أن يعتقد الناس أنها دراسة بحثية أو أكاديمية فيفتح ذلك بابا واسعة للانتقاد على أساس خاطئ،…، ولتحاشي ذلك الاحتمال اخترعت المقدمة الاستفزازية التي تتصدر كل حلقة وهي: …، موسوعة لا علمية تتناول مصطلحات اللهجة الليبية، ولا تهتم بردة فعل القارئ)4.
موسوعة لا علمية
نعم! هذا الجهد غير علمي، أي لا يعتمد على منهج علمي في تناوله لمفردات وتعابير اللهجة الليبية، إنما هو أقرب للقراءة الثقافية التي تحاول قراءة هذا المصطلح وأثره في المجتمع من خلال مواضع استخدامه وأبعاده ومدلولاته ومحمولاته، وهذا جهد طيب خاصة إن الكاتبة “فريدة الحجاجي” غير اختصاصية أو باحثة، وهذه الجهد أقرب لتدوين الملاحظات، المصنفة بحسب اللفظ والتعبير، وحاولت أن تجمع في كل عنوان ما يتصل به.
ولأن الكاتبة كانت قد نشرت هذه الكتابات عبر حسابها الشخصي على الفيسبوك، فإنها لاقت الكثير من التفاعل والملاحظات التي أضافت لهذه المادة، وما إقدام دار الرواد على طباعة هذه الجهد في كتاب ورقي إلا رد فعل طبيعي لهذا النجاح ولمتابعة الدار الذكية فيما يخص الثقافة الليبية، سواء كان هذا الجهد أدبياً أم تراثياً.
هذا الكتاب جاء في 58 مقالاً، في 192 صفحة تناولت فيها الكاتبة مجموعة كبيرة من مفردات اللهجة الليبية، ولعل ما يميز هذا الجهد هو توسع الكاتبة في استخدام بعض المفردات، كما في (يكسر) على سبيل الاستخدام، إذ ألحقت الكاتبة بهذه المفردة 17 استخداما في شكل تعبير شعبي، وهو ما يقدم للقارئ 17 بعدا ومدلولا ثقافيا يتغير بتغير الاستخدام والحاجة.
إضافة لهذه المقالات، رصد في نهاية الكتاب معجماً جمع فيه 666 مفردة من اللهجة الليبية، والمعنى العربي لها. وهذا جهد يحسب للكاتبة وفي ظني يجعل منها (باحثة) في التراث الليبي.
كتاب طيح سعدك!!
هي ليست المرة الأولى، التي يتم فيها تحويل منشور أو منشورات إلكترونية إلى كتاب ورقي، وفي ظني إن هذا العمل الذي تبنته دار الرواد، منح هذا الجهد بعداً جدياً ومعرفياً، فالمادة المطبوعة مازلت أكثر تأثيرا من المادة المنشورة على صفحات الفيسبوك ومواقع الإنترنت. كما إن الكتاب يحفظ حقوق الكاتب ويوثقها، ويجعل منها مادة سهل الوصول إليها بدل البحث على الشبكة.
في الكتاب الكثير من الموضوعات التي استمتعت بها وبما تحمل من معلومات وتنوع، أذكر منها: خلا، الثنائيات، را، القنطشي، التصغير، طاح، العزوزة.
في الختام الكتاب جولة ممتعة في الثقافة الليبية من خلال مفرداتها وتعابيرها التي تتداول بشكل يومي، وحتى وإن اندثر بعضها أو قل استخدامه، فإن الكتاب وثق لها وأثبتها لتكون الفرصة متاحة أكثر للأجيال القادمة، وأن هذا العمل هو كما أوضحت في بداية هذه القراءة هو قراءة ثقافية للهجة الليبية التي تعكس هوية المجتمع الذي يسكن هذه البقعة الجغرافية، ويمكننا اكتشاف الكثير من خصائص هذا المجتمع من خلال لغته أو لهجته التي يتحدث بها بشكل يومي، وحتى وإن لم تقم الكاتبة بتفسير أسباب بعض الاستخدامات أو بعض التعابير إلا إن التدوين يتيح الفرصة للدارسين من إكمال الطريق.
تحية للأستاذة “فريدة الحجاجي” هذا الجهد الثقافي، وتحية لدار الرواد شجاعتها في طباعة ونشر هذا الكتاب، التحفة.
1- فريدة الحجاجي (طيح سعدك وأخواتها – رحلة عبر مفردات اللهجة الليبية)، دار الرواد – طرابلس، ط 1، 2021م.
2- المصدر السابق – ص: 158.
3- المصدر السابق – ص: 159.
4- المصدر السابق – ص: 159.