شعب مثقف

من أعمال الرسام العالمي سيلفادور دالي أرشيفية عن الشبكة


الثقافة ليست ما يوجد في الكتب، لأن ليس كلنا يقرأ أو يهتم بالبحث في الكتب!

ولكن لابد أن يكون قد طرق سمعك جملة (هذا شعب مثقف)؛ إما من عائد من سفر، أو من متابع!، والسؤال هنا: كيف تم الحكم على هذا الشعب بأنه شعب مثقف؟ وما هو المقياس الذي تم الاحتكام إليه لقياس ثقافة هذا الشعب؟ لنقول مثلاً (السويسريون أرقى الشعوب وعلى درجة عالية من الثقافة)!!

أن جملة (هذا شعب مثقف) هي جملة وإن كانت بسيطة، فهي عميقة في أبعادها، ودلالاتها، فهذا الحكم، لا يعتمد على رحلة قام بها أحدهم في الكتب ليعطينا هذا الإثبات! إنما هي نتيجة مباشرة لمعايشة اجتماعية لهذا الشعب (المثقف)، لنكتشف؛ إن هذا الحكم هو نتيجة ما لمس من سلوكيات وتصرفات ومظاهر اجتماعية، تمارس بشكل يومي وتلقائي.

هذا يضعنا على أولى خطوات الطريق، فمجموع السلوكيات المجتمعية (التي يقوم بها أفراده) هي انعكاس لثقافة المجتمع، والتي تمثل الظاهر من ثقافته الأصيلة ومعتقداته والأعراف والتاريخ الإنساني لهذا المجتمع، وهي بمثابة القاعدة التي بني عليها المجتمع الذي نراه ونعايشه.

وهو أيضا يعني مسيرة طويلة من التغيرات والتبدلات التاريخية التي صقلت تجربة المجتمع، وأكسبته خبرة وأساليب وطرائق يستطيع الاعتماد عليها للاستمرار والمضي أكثر، وهذا ما يجعل المجتمعات الإنسانية مختلفة في معايشتها للتجارب، بالرغم من الكثير من القواسم المشتركة، والخطوط العامة التي تجمعها. وبالتالي فإن تحول قيمة معرفية إلى سلوك، يجعل منه ثقافة، وعندما يمارسها المجتمع ترتقي من الثقافة الفردية إلى ثقافة المجتمع.

الربط بين المجتمع والثقافة، للخروج بجملة (مجتمع مثقف) أو (شعب مثقف) جعلت من ثقافة المجتمع أحد مقاييس التطور الحضاري للمجتمعات الإنسانية، والتي تتنافس فيها البلدان. لذا فإن الكثير من الباحثين يناقشون ماهية عمل الثقافة في تطوير المجتمع، وتنميته، كما يبحثون عن الدور الذي تلعبه الثقافة في النهضة الحضارية الشاملة لأمة من الأمم.

لكن المتفق عليه، أن النهضة الثقافية لا يمكن لها أن تُحدث التغيير الذي يرجوه المثقفون، أو العامة، إلا إذا ترافقت مع نهضة عامة في مجالات أخرى، بمعنى نهضة متكاملة، فلكل نهضة تأثيرها في المجتمع وثقافة المجتمع.

إذ لا يمكن الفصل بين النهضة الثقافية، والنهضة الأخلاقية، والاقتصادية، إضافة إلى النهضة العسكرية، والاجتماعية، بل تعتبر الثقافة، محصلةً لكل أوجه النهضة تلك. كونها تؤثر مباشرة في المجتمع، وفي معتقداته ومعارفه وما يراكم من خبرات وتجارب. لكن لا يمكن اعتبارها -أي النهضة الثقافية- مقياساً مستقلاً للتقدم أو التحضر، حيث أنها في حال تقهقر الأمة في المجالات الباقية، لا تعدو كونها انتاجات فريدة (كما يحدث الآن لدينا)، ينسبها المجتمع إلى نفسه، ليتمكن من التصالح مع تخلفه في مجالات أخرى.

النهضة الثقافية؛ تكون ضمن سياق نهضة عامة، في كل المجالات، قد يسبق مجالاً الآخر، لكن خط السير واحد، ومن هنا نستطيع أن ننفي الدور المبالغ فيه للثقافة، والمثقفين في صناعة التقدم منفردين، دون أن يكون هناك بنية نهضوية متكاملة.

ثقافة المجتمع، تبدأ من الفرد، فكل فرد في المجتمع هو عضو أساسي في منظومة المجتمع الثقافية، فهو صورة مصغرة عنه، وسفير له في حال انتقاله لمجتمع آخر، وكلما التزم الفرد بثقافة المجتمع زادت قوة ثقافته وارتباطه كفرد بالمجتمع. إنَّ للالتزام بالمعايير والأسس الصحيحة في ثقافة المجتمع، له آثار إيجابية على الفرد، وعلى المجتمع على حد سواء.

فالفرد يشعر بالراحة والطمأنينة، ويتذوَّق حلاوة العدل، وإيجابيَّة نظرة المجتمع نحوه، مما ينعكس بشكل مباشر على إنتاجيته بالزيادة ويزداد عطاؤه المجتمعي، ويشعر بالانتماء الحقيقي له، وتتبلور بذلك معالم شخصيّته الصحيحة والسويَّة، ممّا يعطي نظرة إيجابيَّة لعلاقته بالمجتمع، وجدوى دوره الفاعل فيه.

أما على مستوى المجتمع؛ ثمة آثار إيجابيَّة أيضاً، حيث تسود المحبَّة بين أفراده، ويعمَّ التماسك والترابط علاقاتهم فيقوى المجتمع، ويتقدّم ويزدهر، ويرتفع شأنه بين المجتمعات المحيطة ويأخذ دوره الإيجابي في صناعة الحضارة، أما العكس يؤدي إلى انفصال بين المجتمع عن أبنائه، فتتسمم العلاقات، ويضعف الترابط بين الأفراد، ويصبح المجتمع ضعيفاً متهاوياً قابلا للسقوط، يسوده الفشل والاضطراب والتخلُّف.

إنَّ المجتمعات الحيَّة هي التي تقيم مراجعات دائمة لأنماط العلاقات الاجتماعيَّة، والنظم التي تسيِّرها، فتترك كلّ ما هو سلبيّ، وتعمل كلّ ما هو إيجابيّ، في ظلال مراجعة تقييميَّة شاملة، تقود المجتمع إلى التقدّم والازدهار، وتقوية عناصر القوَّة والمنعة فيه، ونبذ عوامل الضعف والانهيار، فهكذا تبنى المجتمعات بشكل سليم وهكذا تبنى الأمم أيضاً.

شعب مثقف.. هي ليست مجرد جملة أو مقولة نرددها في مجالسنا بقدر ما هي مسيرة طويلة من العمل للظفر بهذا اللقب، فأين نحن منها؟!!


نوافذ ثقافية – الهيئة العامة للثقافة – العدد 18/ 23 أغسطس 2020م

شعب مثقف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *