المبتدأ
قال لي مبتسماً: سيعجبك الكتاب!!
أجبته: أهو ثقة أم غرور؟
اجاب، وابتسامته مازالت: بعض الغرور لا يضر!!!
الآن، يمكنني أن أقول؛ نعم أعجبني الكتاب، واستمتعت!!!
*
الشذرات
يجمع أكثر من مصدر، أن (الشذرات) كأسلوب للكتابة رافق الفلسفة، بسبب نقص التدوين، أو ضياع المكتوب من ذاكرة الكتابة، منذ الفلسفة اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، كما واعتبرت الشذرات التي وصلتنا من فلسفة “هيرقليدس”، و”برمنيذس”، و”ديمقريطس”، هي الشكل الأول لظهور الشذرة أو المقطعية في الكتابة.
وتعتبر (خواطر باسكال؛ 1623-1662م) هي عودة الحياة لهذا الشكل، ليعود لفن الشذرات أو البيوغراف، أحد أشكال التأليف، لتتلوها من بعد (خواطر جان جاك روسو 1712-1778م). أما القفزة الأكبر لهذا الفن، فجاءت مع أعمال الفيلسوف الألماني “فردريك نيتشه”، والذي مزج بين المقطعية الرقمية وبين الشذرة الشعرية، أو الحكمة الفلسفية، وغالبا ما يطلق لنفسه العنان في تقديم مقطعيات تبدو وكأنها مقطوعات أدبية مستقلة عن المتن الأصلي، ثم يجد لها رابطا بمهارة خاصة (ولعل هناك أكثر من رأي بأن فلسفة “نيتشه” بأكملها تنحو نحو هذا المشروع التفكيكي أو التفصيلي في واقع الحال).
باختصار؛ الشذرة، هي أحد أشكال الكتابة النثرية، التي تعتمد الاختصار، لتسجيل الخواطر الفكرية، والفنية، والأدبية، في شكل فقرات، لا حجم محدد لها، فأقلها جملة. وهي نص موجه، قد يكتب بأكثر من صيغة. وبالرغم من رواج هذا الشكل في الآداب الغربية، إلا أنه لم يجد له ذات الرواج في الأدب العربي، إلا متأخراً، إن لم أقل متأخراً جداً؛ وأكاد أجزم، أن للتدوين والكتابة والنشر على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة (تويتر)، كان أحد أهم الأسباب لرواج هذا الفن وانتشاره، كأسلوب للكتابة والتعبير، والنقل والنشر.
لماذا الحديث عن الشذرات؟
السبب، هو (فيرينا)*، وهو كتاب أنيق وماتع، استمتعت في جلسة غابت فيها الكهرباء، حيث انتهيت منه، قبل أن يهرب ضوء المساء.
فيرينا.. شخصية افتراضية، أوجدها خيال الكاتب الشاب “محمد التليسي”، والتي ربما تكون شخصية حقيقية، أو شخصية جمعت محاسن الأنثى لغاية الكمال، وتوجه إليها بهذه الشذرات، التي حملها “التليسي” الكثير من الرسائل؛ والتي جاءت في أكثر من مستوى.
أول ما نلتقطه من ملاحظات عقب الانتهاء من قراءة هذه الشذرات، أنها جاءت مباشرة، لم تسعى وراء الإبهار أو تفاعل المتلقي، فهي نصوص أو مقاطع نثرية، مكتوبة بلغة بسيطة، تحمل رسالة ما؛ وجدانية، اجتماعية، فكرية، معرفية، لا تحمل الكثير من الألوان، أو هكذا أريد لها، في إيقاع هادئ، لتتسرب سريعاً داخلنا، وتنتشر في وداعة.
اختلفت الشذرات، في نمط كتابتها، بين الفقرات المرسلة، والموجهة والتي تخدم الرسالة التي تحملها، وبين الشذرات التي جاءت مكثفة، في جملة، أو أكثر، وشذرات كتبت بأسلوب أدبي رفيع، اقترب كثيراً من الكتابة الشعرية، أو ربما هو مقطع شعري، إذ نجد الصورة الشعرية مكتملة الجوانب، واللغة على درجة من الحساسية، والنفس الشعري الذي تشي به الشذرة، حتى على مستوى الشكل، فقد تم العمد إلى قطع الجمل وتوزيعها على الأسطر، فيما يشبه المقطع الشعري، أو الوحدة الشعرية من قصيدة النثر.
وأزعم أن تنوع أنماط الكتابة، هو عن قصد من “التليسي”، تلبية لحاجة الكتابة، وليوافق النمط الرسالة التي يحملها، وهو يكشف عن وعي وإدراك الكاتب بما يقدم، وكيف يمكنه تقديم فكرته، كما ويكسف من جانب خفي، أن (فيرينا) هذه، على درجة من الوعي والكمال، لتستوعب هذا الحجم من الرسائل، وتتفاعل معها.
آخر ما يمكن الوقوف عنده، أن هذه الشذرات كتبت بقصدية، بمعنى إن الكاتب اختار ان يكتب مجموع أفكاره التي اختلفت، وتنوعت، وتباينت في مستوى عرضها في الموضوع الواحد، في شكل شذرات، بحيث يتم كتابة الشذرة، وإطلاقها بما تحمل من طاقة، وهذا الشكل بقدر بساطته، إنما يعتمد على قدرة الكاتب ولغته، وقدرته على سبكها وتقديمها بصورة مباشرة، وشد القارئ إليه.
الحوارات
في الجزء الثاني من كتابه، نكتشف “فيرينا” أكثر، لنكتشف إنها أكثر من مجرد استدعاء لأنثى، إنما هو بحث عن النصف الآخر، المكمل، وذلك من خلال مجموعة من الحوارات المتبادلة، والتي تحمل الكثير من الأفكار والرؤى.
الحوار هو شكل من أشكال الكتابة الإبداعية، المهجورة إلى حدٍ ما، والتي يسعى من خلالها الكاتب إلى مناقشة مجموعة من الأفكار والرؤى، والتي يتماس معها بشكل مباشر، بالتفصيل؛ فيطول الحوار، أو بالاختصار، أو المزج بين الأسلوبين.
وبما أن الحوار مقصود في ذاته، فإن “فيرينا” تظهر في كامل زينتها، سواء الداخلية أم الخارجية، كما إنها صريحة، وتعرف كيف تصوغ إجاباتها، ولا تحملها الكثير من الدلالات، أو تجملها على حساب المحتوى.
فهي تجاوب بطريقة مباشرة، ومحددة، لا تستعرض، ولا تتعلق بالهوامش أو تأنس للتفاصيل، أو تتبع المسارب الجانبية. وهو ما يمنح هذه الحوارات قدراً من المصداقية، ويؤهلنا لتبني مواقفها.
سنكتشف أن بعض الحوارات، صداها موجود في الشذرات، وهو ما يدعم الفكرة التي أراد الكاتب إيصالها، ويزد إقناعنا بعمقها، وتكاملها.
الكاتب في هذه الحوارات تعامل بذكاء، حيث جاءت أغلب الحوارات قصيرة، بنية التركيز على الفكرة الأساسية، كما إن الحوارات التي طالت بعض الشيء، أديرت بشكل جيد، خاصة وإن التعويل على “فيرينا” كان موفقاً.
الـخـبر
فيرينا.. المرأة المثال، التي جسدها قلم “محمد التليسي” لتبهره أولاً، جمعت كل ما يتمناه الرجل من محاسن المرأة، لتبهجنا وتمتعنا عبر هذا الكتاب، الذي قدم لنا قلماً شاباً، يملؤه الحماس، والرغبة في إثبات الذات، فاختار أن يكتب ويجرب من خلال (فن الشذرة) أو (الشذرات)، الذي بإمكانه أن يقول من خلاله ما يريد، دون مخافة السقوط في مطبات الأجناس الأدبية من شعر وقصة، وما تثيره من خلافات حول قواعدها وأحقيتها بالانتساب.
في الجزء الثاني من الكتاب، يقربنا “التليسي” من فتاته أكثر، من خلال (حوارات)، قربتنا أكثر من فكره ورؤيته.
هذا الكتاب الذي أتيت عليه في جلسة واحدة، نهارية، بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وجدت فيه الكثير من المتعة الفكرية، والبساطة في قراءة الأمور، ومناقشة القضايا، والعمق في المشاعر والغوص في ثنايا الأحاسيس.. نحن على موعد مع كاتب متميز!!!
_________________
* فيرينا (محمد التليسي)، مكتبة طرابلس العلمية العالمية. الطبعة الأولى، 2018.