غريتسياني ونظارة عمر المختار .. الذكرى 85 لاستشهاد شيخ الشهداء

شيخ الشهداء عمر المختار أرشيفية عن الشبكة
شيخ الشهداء عمر المختار
أرشيفية عن الشبكة

في الـ16 من سبتمبر عام 1931، وببلدة سلوق، وفي حشدٍ من الأهالي، وبحضور عسكري بري وجوي، سلم أسد الصحراء، شيخ الشهداء “عمر المختار” إلى جلاده، عند التاسعة، الذي جهزه، لتنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه في اليوم السابق.

ولد “عمر المختار غيث” سنة عام 1862، وقيل عام 1858 (هناك من يثبت التاريخ 20 أغسطس 1861)، في قرية (جنزور) الشرقية منطقة (بنر الأشهب)، شرق (طبرق) في بادية البطنان في الجهات الشرقية من برقة التي شرقي ليبيا. تربى يتيماً، لذلك كان كفله الشيخ “حسين الغرياني”، عم “الشارف الغرياني” حيث وافت المنية والده “المختار بن عمر” وهو في طريقه إلى مكة المكرمة، وكانت بصحبته زوجته “عائشة”.

تلقى تعليمه الأول في (زاوية جنزور) على يد إمام الزاوية الشيخ العلامة “عبد القادر بوديه” أحد مشائخ الحركة السنوسية، ثم سافر إلى (الجغبوب) ليمكث فيها ثمانية أعوام للدراسة والتحصيل على كبار علماء ومشايخ السنوسية، في مقدمتهم الإمام السيد “المهدي السنوسي” قطب الحركة السنوسية، فدرس علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ولكنه لم يكمل تعليمه كما تمنى.

مبكراً، ظهرت عليه علامات النجابة ورزانة العقل، فاستحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه السيد “المهدي السنوسي”، مما زاده رفعة وسمو، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ومشايخ القبائل وأعيان المدن حتى قال فيه السيد المهدي واصفاً إياه: (لو كان عندنا عشرة مثل “عمر المختار” لاكتفينا بهم). لثقة السنوسيين به، ولي مشيخة (زاوية القصور) بالجبل الاخضر.

في العام 1317 هـ (1900) اختاره السيد “المهدي السنوسي” رفيقاً له إلى السودان الأوسط (تشاد)، عند انتقال قيادة الزاوية السنوسية إليها. وقد شارك “عمر المختار” فترة بقائه بتشاد في الجهاد بين صفوف المجاهدين، في الحرب الليبية الفرنسية في المناطق الجنوبية (السودان الغربي، تشاد) وحول (واداي). وقد استقر المختار فترة من الزمن في (قرو) مناضلاً ومقاتلاً.

ثم عين شيخاً لزاوية (عين كلكه) ليقضي فترة من حياته معلماً ومبشراً بالإسلام في تلك الأصقاع النائية. وبقي هناك إلى ان عاد إلى برقة سنة 1321 هـ (1904)، واسندت اليه مشيخة (زاوية القصور) للمرة الثانية.

عند إعلان إيطاليا الحرب على تركيا، في ليبيا 29 سبتمبر 1911، وبدأ قصف المدن الساحلية (درنة وطرابلس ثم طبرق وبنغازي والخمس) في أكتوبر من العام نفسه، كان “عمر المختار” في تلك الأثناء مقيماً في (جالو) بعد عودته من (الكفرة) حيث قابل السيد “أحمد الشريف”، وعندما علم بالغزو الإيطالي فيما عرف بالحرب العثمانية الإيطالية، سارع إلى مراكز تجمع المجاهدين حيث ساهم في تأسيس (دور بنينه) وتنظيم حركة الجهاد والمقاومة إلى أن وصل السيد “أحمد الشريف” قادماً من الكفرة.

شهدت الفترة التي أعقبت انسحاب الأتراك من ليبيا سنة 1912، وتوقيعهم (معاهدة لوزان)، التي بموجبها حصلت إيطاليا ليبيا، أعظم المعارك في تاريخ الجهاد الليبي، منها على سبيل المثال معركة يوم الجمعة عند درنة في 16 مايو 1913، حيث قتل فيها للإيطاليين عشرة ضباط وستين جنديا وأربعمائة فرد بين جريح ومفقود، إلى جانب انسحاب الإيطاليين بلا نظام تاركين أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم، ومعركة بو شمال عند عين ماره في 6 أكتوبر 1913، وعشرات المعارك الأخرى.

وحينما عين “أميليو” حاكماً عسكريا لبرقة، وجد نار المجاهدين في انتظاره في معارك: أم شخنب وشليظيمة والزويتينة في فبراير 1914م، ولتتواصل حركة الجهاد بعد ذلك حتى وصلت إلى مرحلة جديدة بقدوم الحرب العالمية الأولى.

دفعت مواقف “المختار” ومنجزاته إيطاليا إلى دراسة الموقف من جديد، وتوصلت إلى تعيين “غرتسياني” وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية. ليقوم بتنفيذ خطة إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، في وحشيتها وفظاعتها وعنفها، وقد تمثلت في عدة إجراءات ذكرها “غرسياني” في كتابه (برقة المهدأة):  قفل الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن والذخائر.

 إنشاء المحكمة الطارئة في أبريل 1930. فتح أبواب السجون في كل مدينة وقرية ونصب المشانق في كل جهة. تخصيص مواقع (العقيلة) و(البريقة) من صحراء غرب برقة و(المقرون) و(سلوق) من أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتشريد.  العمل على حصار المجاهدين في الجبل الأخضر واحتلال الكفرة.

انتهت عمليات الإيطاليين في (فـزان) باحتلال: مرزق وغات في شهري يناير وفبراير 1930، ثم عمدوا إلى الاشتباك مع المجاهدين في معارك فاصلة، وفي 26 أغسطس 1930 ألقت الطائرات الإيطالية حوالي نصف طن من القنابل على الجوف والتاج، وفي نوفمبر اتفق “بادوليو” و”غراتسياني” على خط الحملة من (اجدابيا) إلى (جالو) إلى (بئر زيغن) إلى (الجوف)، وفي 28 يناير 1931، سقطت (الكفرة) في أيدي الغزاة، وكان لسقوطها آثار كبيرة على حركة الجهاد والمقاومة.

في معركة السانية في شهر أكتوبر عام 1930 سقطت من الشيخ “عمر المختار” نظارته، وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته، فرائها “غراتسياني” فقال: الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما.

وفي 11 سبتمبر من عام 1931، وبينما كان الشيخ “المختار” يستطلع منطقة (سلنطة)، في (الجبل الاخضر) في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقتها تعزيزات، واشتبك الفريقين في (وادي بوطاقة) ورجحت الكفة للإيطاليين، فأمر “عمر المختار” بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته وسقطت على يده مما شل حركته نهائياً. فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع عن نفسه، فحاصره العدو من كل الجهات وتعرفوا على شخصيته، فنقل على الفور إلى (مرسى سوسه) في الجبل الاخضر ومن ثم وضع على طراد الذي نقله رأسا إلى (بنغازي) حيث أودع السجن الكبير بمنطقة (سيدي اخريبيش). ولم يستطع الطليان نقل الشيخ براً لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.

كان لاعتقاله في صفوف العدو، صدىً كبيراً، حتى أن “غراتسياني” لم يصدّق ذلك في بادئ الأمر، وكان في روما حينها كئيباً حزيناً منهار الأعصاب، في طريقه إلي باريس للاستجمام والراحة تهرباً من الساحة، بعد فشله في القضاء على المجاهدين في الجبل الأخضر، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال منه، والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه مشككة في مقدرته على إدارة الصراع. وفي حينها تلقى برقية مستعجلة من بنغازي مفادها إن عدوه اللدود “عمر المختار” وراء القضبان، فأصيب “غراتسياني” بحالة هستيرية كاد لا يصدق الخبر. فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشياً على قدميه محدثاً نفسه بصوت عال، ويشير بيديه ويقول: (صحيح قبضوا على عمر المختار؟)، ويرد على نفسه: (لا، لا اعتقد). ولم يسترح باله، فقرر إلغاء أجازته واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في نفس اليوم وطلب إحضار “عمر المختار” إلي مكتبه لكي يراه بأم عينيه. حيث وصلها في الـ14 سبتمبر 1931.

في يوم الثلاثاء 15 سبتمبر 1931، أعلن عن انعقاد المحكمة الخاصة، وكانت محكمة هزلية صورية، في مركز إدارة الحزب الفاشستي ببنغازي، عند الساعة الخامسة والربع، وبعد ساعة تحديداً صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت. وعندما ترجم له الحكم، قال الشيخ: إن الحكم إلا لله، لا حكمكم المزيف، إنا لله وإنا إليه راجعون.

في صباح اليوم التالي للمحاكمة الأربعاء، 16 سبتمبر 1931، الأول من شهر جمادى الأول من عام 1350 هـ، اتخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، واحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم. واحضر الشيخ “عمر المختار” مكبل الأيدي، وعلى وجهه ابتسامة الرضا بالقضاء والقدر، وبدأت الطائرات تحلق في الفضاء فوق المعتقلين بأزيز مجلجل حتى لا يتمكن عمر المختار من مخاطبتهم.

في تمام الساعة التاسعة صباحاً سلم الشيخ إلي الجلاد، وكان وجهه يتهلل استبشاراً بالشهادة وكله ثبات وهدوء، فوضع حبل المشنقة في عنقه، وقيل عن بعض الناس الذين كان على مقربة منه انه كان يأذن في صوت خافت آذان الصلاة، والبعض قال انه تتمتم بالآية الكريمة (يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية)، ليجعلها مسك ختام حياته البطولية. وبعد دقائق صعدت روحه الطاهرة النقية إلى ربها تشكو إليه عنت الظالمين وجور المستعمرين.

سبق إعدام الشيخ أوامر شديدة الحزم بتعذيب وضرب كل من يبدي الحزن أو يظهر البكاء عند إعدام “عمر المختار”، فقد ضرب “جربوع عبد الجليل” ضرباً مبرحاً بسبب بكائه عند إعدام “عمر المختار”. ولكن أصوات الاحتجاج علت، ولم تكبحها سياط الطليان، فصرخت “فاطمة داروها العبارية” وندبت فجيعة، وزعردت للشهيد، وهي التي وصفها الطليان: بالمرأة التي كسرت جدار الصمت.

ظل عمر المختار يجاهد الإيطاليين لـ20 عاماً، أذاق فيها قواتهم الهزيمة تلو الهزيمة، والخسارة تلو الخسارة. قائداً وشيخاً لأدوار المجاهدين. ولم يمنعه كبر سنه من التوقف عن حماية وطنه، رغم ما قدم له من إغراءات، ولم يتوقف عن هذا العمل حتى تاريخ أسره وهو شيخٌ سبعيني.

وأعلى ما قيل في استشهاده، مرثية أمير الشعراء “أحمد شوقي”، والتي اعتبر فيها استشهاد “عمر المختار” لواءً يهدي من يأتي من بعده على درب النضال:

رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ

يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ

يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ

توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ

ما ضَرَّ لَو جَعَلوا العَلاقَةَ في غَدٍ

بَينَ الشُعوبِ مَوَدَّةً وَإِخاءَ

جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ

تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ

يا أَيُّها السَيفُ المُجَرَّدُ بِالفَلا

يَكسو السُيوفَ عَلى الزَمانِ مَضاءَ

تِلكَ الصَحاري غِمدُ كُلِّ مُهَنَّدٍ

أَبلى فَأَحسَنَ في العَدُوِّ بَلاءَ

وعندما رأى الشاعر “حسين الأحلافي” صورة الشهيد “عمرالمختار” وهو مكبل

بالحـديد ليدفع إلى الجلاد بقرية (سلوق)، وقد ظهر بالصورة ضباط الطليــان يبدو على وجوههم السرور، بهــــذا الانتصـــار والقضــاء على المقـاومــة، قال:

يــا للوقــاحة صــــوروك مكبـــّلا

واستحقـــروك وأنـــت أعظـــم شـــانا

وقفوا إزائــك مظهــرين سرورهم

فــي موقــــف يستجلــــــب الأحــزانا

أمنــوا يمينـــك وهي موثقــة ولـو

طلقــــت يمينـــك وامتطيــــت حصانا

ورأوا سلاحك مصلتــا لتأخـّـــروا

وتهيّبــوك وغـــــادروا الميـــــــــدانا

كالليث تسحــب في حديــدك بينهم

ولأنــــــت أثبــــت في اللقـــــاء جنانا

كم مــرة زحفـــوا عليـــك بجحفل

يكســــو الجبــــال ويمــــــلأ الوديــانا

فـفللــت جيشهــــم العظيـــم بقـــوة

جبــــّارة لا تعـــــــــرف الإذعــــــانا

يا عصبـة الطليـــان مهـــلا إننــــا

عـــــرب كـــــــرام لـــن تضيـع دمانا

لن تستريحـــوا بثأرنــا أبـــدا ولن

ننـــــسى وإن طــــال الزمـــان حمانا

نشر بموقع بلد الطيوب

غريتسياني ونظارة عمر المختار .. الذكرى 85 لاستشهاد شيخ الشهداء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *