من ذاكرة فبراير
1
بدا اكتشافي حزن طرابلس من رسم كاريكاتوري للفنان الراحل “محمد الزواوي”، وهو كما مازلت أتذكره، يصور عروساً تخوض في مياه المجاري، معلقاً “عروس البحر”. ومع الوقت بدأت اكتشف كم حزن هذه المدينة وانكفائها على نفسها. كنت وأنا أتجول في شوارعها وأزقتها (زناقيها) اكتشف حجم البؤس الذي تعيشه، وما تعانيه من ألم، وأن الألوان وعمليات التجميل لن تستطيع رسم الفرح، أو إشاعة البهجة فيها، بقدر ما تعمق من حزنها.
كنت أجوب شوارعها كل صباح وحيداً، أبحث فيها عن طرابلس “علي صدقي عبدالقادر”، و”محمد الفقيه صالح” فلا أجدها، أظنها تختبئ في الشوارع الخلفية، فتفتح الطريق إلى الحديقة، جافة وفارغة إلا من أكداس القمامة. أحاول تتبع درب شيخنا “علي مصطفى المصراتي” إلى مقهاه، فأجدني ضائعاً في الفراغ.
جرحان..
إيقاع المدى..
والخاطر المفتون.
جرحان..
ذاكرتي التي تهمي،
وجمرٌ في اشتهاءات العيون.
جرحان يا قلبي
وصمتُك حائط يعلو
لماذا كلما انتابت حديقتك اختلاجات الندى والعشق
سربلَكَ السكون؟(1)
الأزمة عمقت من جرح طرابلس، فانكفأت على نفسها أكثر. القبضة من حولها كانت قوية، ثمة من يترصدها في كل لحظة، ويقف على حافة الحلم وحدود الكلام. الصمت، أنت تتجول في شوارع طرابلس عند العاشرة صباحاً وتجدها صامتة وحزينة.
أن رأيتموني ماشياً، خدعكم نظركم، أنا أركب فرسي
أوصاني أبي: أطعم فرسك السكر، لتكتشف (طرابلس)
يمر بي فرسي بشارع: (الصفار)، يريني طفولتي، ألعب الكرة
مرة أدحرجها مرة أقذفها مع حذائي في الهواء
يقف فرسي أمام البحر، يقول: هذي الوطن بلل وجهك ببلحها
يقف أمام البحر، هذا أبوك، ملحه قهر العدو، فذهب وبقى الملح
وأسال أمي : أسمك فاطمة، اسمي علي، فما اسم (طرابلس)؟؟!!
ضحكت أمي، أنسيت قال لك لبني: (طرابلس الحب)؟؟!!(2)
2
يوم 20 رمضان كان يوماً مميزاً على جميع المستويات، كان شباب طرابلس الأحرار قد قرروا استعادة مدينتهم. لم ينتظروا طويلاً، بعد صلاة المغرب انطلقت أولى التكبيرات، كنت أستطيع سماعها وكانت الإشارة. أحرار طرابلس خرجوا للشوارع مترسوها وأمّنوها، ووزعوا المجموعات على المداخل والمخارج. كنت قد تركت منزلي واتجهت لبيت العائلة بمنطقة (بن عاشور). بعد صلاة العشاء بدأت أولى المواجهات، كان صوت مواجهة قريبة يصل إلى أسماعنا حتى فاجأنا سيلٌ من الرصاص استقر بعضها بالسور الخارجي لبيت العائلة. وتحت إصرار الشباب تراجعت السيارة، لكنها لم تبتعد كثيراً، لتقع في كماشة، انتهت بها محترقة. كانت القنوات الإخبارية بدأت متابعة ونقل ما يدور من أحداثٍ في طرابلس، وشارعنا في مقدمة الأخبار.
يرد علي أحد الأصدقاء: وصلنا خلاص، احنا في المايه.
كانت الكثير من مناطق طرابلس أعلنت تأمين نفسها وتحررها، لكن بعضها ظل تحت مرمى قذائف (باب العزيزية)، أو تحت سيطرة موالي النظام في (الهضبة وبوسليم).
21 رمضان، بدأ دخول الثوار طرابلس من الشرق والغرب. في شرق طرابلس كانت المعارك على أشدها، بينما كانت الطريق مفتوحة أمام الثوار من البوابة الغربية. ومع ساعات الصباح الأولى ليوم 22 رمضان وصلت الدفعة الثانية من ثوار الجبل (ساحة الشهداء) لتجد في استقبالها أهالي طرابلس بالتكبير والزغاريد. (باب العزيزية) كانت ملحمة حقيقة، كل شباب ثورة 17 فبراير كان حضراً، وتنافس من أجل هذه المعركة التي تنهي سيطرة 4 عقود من الظلم والاستبداد.
وسقط (باب العزيزية)، لم يكن من السهل علي تصديق أن يسقط معقل الطاغية، لم يستطع الصمود ليومين أمام إرادة الشباب وعزمهم على استرجاع طرابلس، عاصمتنا الحبيبة من حبسها. طرابلس محررة. وحتى اللحظة تصدح سماء طرابلس بالتكبير، وعندما تنقطع الكهرباء، ترتفع حناجر الرجال والشباب بها، ومن خلفهم النساء تهتف وتطلق زغاريدها.
___________________________
1- محمد الفقيه صالح (نص: قصيدة إلى طرابلس الغرب). موقع بلد الطيوب.
2- علي صدقي عبدالقادر (نص: مدينتي اسمها طرابلس الحب). صحيفة الشط_ العدد:484_ التاريخ: 03/08/1999.
________________________
نشر في صحيفة (مارماريكا- ثقافية أدبية منوعة ومستقلة) العدد 2-3 / بتاريخ: 1-1-2012