طـرابـلـس 5
طرابلس ليست على ما يرام، فهي كمدينة حياتها في حياة سكانها، الذين تغير نمط عيشهم بشكل كبير. وبالرغم من كل المحاولات، لم تنجح عمليات التجميل من إخفاء أثر السهر عن عينيها، أو المنشطات في تحفيزها على السير بشكل مستقيم، أو إعادة الإشراق لوجهها.
(مافيش حد فاهم حاجه)، هذا التعبير البسيط يعكس حالة الضياع التي يعيشها المواطن الليبي، لا يدري إلى أين ولا كيف، ومتى؟. النسبة العظمى توقفت الحياة بالنسبة لهم، وأعني، النمط الحياتي الذي اعتادوه، ومشاريعهم التي يحلمون بها. أنا نفسي تغير نمط حياتي كليّة، وتوقفت مشاريعي، سواء الثقافية؛ من خلال موقع بلد الطيوب وموقعي الشخصي، والحياتية، بتوقف أعمال بناء منزلنا الصغير. حالة أشبه بالضياع، بل أزعم إنها حالة تيه، بالرغم من وضوح معالم الطريق، وجلاء النهار، الأمر الذي يجعلك أمام ما تلتقطه حواسك من إشارات ومعلومات في شكٍ مما تقودك إليه، حتى الإشارات لم تعد تلق الثقة التي اعتادت. الأمر أشبه بحالة البله التي تصيب أحدنا من تعثر الإجابة على لسانه، أمام سؤال سهل وبسيط.
يعلقُ أحدهم (ما يهمش، المهم تنتهي ها القصة)، يرد آخر مبتسماً (ماتبيش تكمل). المشهد المفتوح مربك، فهو يتركك أمام دالة غير محددة من الاحتمالات، تضيع معها، دون استطاعة منك لإنهاء المشهد. لينتقل الإنسان من البحث عن الحل المثالي، الذي يصور أحلامه وآماله، للحل المفترض، وهو النتيجة المباشرة للعملية الواقعية، وهو حل تتفق حوله كل الأطراف، لا يحتمل الكثير من أنانية الحلم ومساحة الخيال. وعندما لا يجد، فإنه يحتمل بتر العضو المصاب والاكتفاء بالبقية سالمة، وفي لحظة ضعف منه، قد يخسر حياته ببتره هذا العضو، في لحظة يأس، دون الصبر قليلاً لمواصلة العلاج.
المواطن البسيط يجد نفسه ضائعاً دون علامات، فلقمة العيش تشده إلى طاحونتها، يظل يدور ويدور، هو أبعد عن إدراك ما يدور حوله، وهو المشغل الأساسي لما يحدث. يتعامل مع الأمور باعتباطية، يثق في كل ما ينشر ويبث من حوله، دون الذهاب وراءه. الآلة الإعلامية المسخرة، استطاعت أن تمتلك هذا الإنسان البسيط، حاشدة كل طاقاتها لإعادة تشكيل الصور من حوله. وبتفوق استطاعت إيصال الصورة التي تريد، لعقل المواطن، رغم ما تعرضت له من إرباك بداية الأحداث. وهذا النجاح نلمسه بشكل كبير في ردود فعل المواطن، فهو لا يحتاج لأي محفز، وكما علق أحد الإعلاميين: (ما إن تضع لاقط الصوت أمامه، وتطلب منه النظر للكاميرا، حتى يبدأ بالكلام). البعض من أصحاب المؤهلات وقعوا تحت تأثير هذه الصورة الممنهجة، الأمر الذي يذكرني بالحملة الإعلامية الموجعة ضد الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” في الثمانينيات.
ولأن الظرف أرغم أغلب المواطنين على السكون لبيوتهم باكراً، فإن الآلة الإعلامية اعتمدت فترتي المساء والليل لبث برامجها، ليكون الجزء الأول مخصصاً للبرامج الدينية والحوارية القصيرة، لتخصص فترة الليل للبرامج الثقيلة، وهي البرامج المخصصة لبث ما يريده النظام، بنية التضليل، فتم تخصيص مجموعة من البرامج لتقديم الأخبار الخاصة بالمواجهات وما يحكاك (ليبيا اليوم، وفي الصميم)، وأخبار الجهات واللجان الشعبية وشكاوى المواطنين (نداء ليبيا)، والتعليق على ما ينشر من أخبار وتحليلها (عشم الوطن)، أو التجريح وبث الأخبار الكاذبة (حقيقة المؤامرة). وتصدر لهذه البرامج مجموعة من الأسماء، كان لها كبير الأثر في عقول المواطنين، فما يقدمونه بالليل، يكون محور أحاديث الصباح في أماكن العمل والأماكن العامة، حد ترديد ما يقال حرفياً.
حمزة التهامي، يوسف شاكير، خالد تنتوش، مصطفى قادربوه، هالة المصراتي، وديان، وغيرهم. أسماء ظهرت بقوة، بعضها على صلة بالعمل الإعلامي، وبعضها جاء لخدمة المرحلة، ونجحت بشكل كبير. وكان لها كبير الأثر في وجدان المواطنين، لتوافر مجموعة من الشروط، أهمها؛ جرأة تدعمها صلاحيات مفتوحة، خلفية معرفية وثقافية جيدة للغالبية، قدرة كلامية لمراوغة الحقيقة. وهم يتحملون ما نتج من حساسية وتفرقة داخل النسيج الوطني، بإثارتهم الخوف والفزع من الغول الشرقي (الشرقاوي) القادم، وما ينشرون من أضاليل.
في الليل تركن إلى ثوب عيدها تضيف إليه زينة جديدة، تبتسم: (اللي مكتوبلك ما يخطاك، وغدوه يوم جديد). وطرابلس في انتظار هذا اليوم الجديد، كلها أمل في الانطلاق، مشرعة يديها، فاتحة وجهها للشمس.
________________________
تنويه: سلسلة المقالات هذه كتبت خلال الفترة من شهر مارس وحتى سبتمبر 2011. في محاولة لرصد أحوال طرابلس الحبيبة.
نشر بصحيفة فبراير 23-10-2011