يمكننا تعريف النص الرقمي، في أبسط صورة، بإنه التعبير الرقمي عن تطور النص الإبداعي –بشكل محدد-، أو بمعنىً آخر، هو كل نص ينشر نشراً إلكترونياً (رقمياً). ومهما تعددت التعريفات، فإن النص –في ذاته، ليكون حياً- يعتمد بشكل أساس على وسائط النقل، بالتالي فهو كائن نشط، يستـفيد بذكاء من جديد التواصل، ويعرف كيف يطور إمكانياته. فالنص الرقمي، هو نص استفاد مما يقدمه الوسيط الرقمي له، أو الآلة الرقمية، وما يمثله هذا الوسيط من ثقافة، وما يقدمه من إمكانيات. وهو هنا –أي النص- يستفيد من الخاصية الرقمية (التقنية)، في التحول من صورته الموجودة في عقل المبدع –أو المنشئ-، وهي صورة غير ملموسة أو غير مادية، إلى مجموعة رقمية بالاعتماد على المكون (0 / 1)، وهي صورة غير ملموسة، وموجودة ككيان. لذا فإن النص خارج وسيلة العرض هو سلسلة رقمية طويلة لا يمكن قراءتها أو فكها، ويتمثل دور وسيلة العرض (حاسوب، هاتف نقال،…) في تمكيننا من قراءة وعرض هذه السيل الرقمي، في نسيج أو نسق يمثل متن النص الأبداعي، أو النص في ذاته.
المدخل السابق يضعنا في مواجهة بعض الأفكار. هل للنص الرقمي وجود؟ وهل يمكن تسمية السيل الرقمي نصاً؟، بالتالي، هل السيل الرقمي هو النص؟، أم يمكن إعادة تشكيل النص في تشكيل السلسلة الرقمية؟. ومن بعد، ما هو النص خارج جهاز الاستعراض أو العرض؟ وهل تختلف صورة النص باختلاف وسيلة العرض؟. في ظني، إن الإلمام بهذه الأفكار والإجابة عليها، مهمٌ جداً، لأنها مفاتيح فهم ماهية النص الرقمي بشكله الصحيح، والتعرف إلى إمكانات هذا النص وجدواه، من مجرد إطلاق المصطلحات، أو إيجاد ما هو غير موجود، أو لمجرد السير خلف القافلة، لا أكثر.
حقيقة وجود النص الرقمي لا يمكن إنكارها، فالتعامل مع النص الرقمي، لا يتأتي بالاعتماد على النمط القديم للإبداع، كالتعامل مع النشر الورقي، أو باستخدام الرقمية كوسيط أو وسيلة بدل منهج. الأمر الذي يحرم المبدع من كثير من طاقات الثورة الرقمية وما يمكن للنص –الرقمي- اجتراحه، لذا فإن الغالبية العظمى مما يظن في تجربتنا الرقمية العربية بأنه نص رقمي، هو صورة رقمية لقوالب تقليدي، وهي أبسط صور وأنماط النص الرقمي، والتي تصنف كأحد وسائل النشر، الذي يقف بالنص عند نشره بأي من الصيغ أو القوالب الإلكترونية والتي في أغلبها تعتمد على برمجيات جاهزة. فلا يعني مجرد الاتصال بالشبكة المعلوماتية (الإنترنت) أو أستخدام جهاز الحاسوب (أو أي وسيلة قادرة على توفير خدمة تحرير ونشر النص) الحصول على نص رقمي، بل امتلاك قدرٍ من المعارف والمهارات ذات العلاقة بالوسيلة الرقمية. المعارف من جهة إدراك معنى الرقمية أو نظام (0/1)، والمهارات إمكانية استخدام البرامج المتاحة للتواصل الرقمي. وهنا نقف من جديد عند سؤال مفصلي: هل السيل الرقمي هو النص؟، أم يمكن إعادة تشكيل النص في تشكيل السلسلة الرقمية؟. إن فهمنا للفرق للخاصية الرقمية يقربنا أكثر من حدود الإجابة على هذا السؤال الشائك. فالنص كسيل رقمي، نص لا يمكن التنبؤ بشكله ومحتواه، فالنص هنا يتبع السيل الرقمي في حركته وتمظهره، مما يعني عدداً لا نهائياً من الاحتمالات، وهذه الخاصية في النص الشعري، تفتحه بالتوازي، على براح ممتد من الصور والإحالات فلا يعود النص مجرد الجملة الساكنة، إذ يتحول إلى نص ديناميكي في ذاته، لا شكل ثابت له، وهذه الأشكال هي نصوص مولَّدة لا تمت للنص الأصلي بصلة، أي لا تمت للشاعر بصلة، وهي خارج دائرته تماماً، النص الآن تحت سيطرة السيل الرقمي بالكامل، أما تقنية العرض فهي لا تمت بعلاقة للنص، إلا تقديم صورة للنص. هل يعني هذا أنه لا دور للشاعر (المبدع) هنا؟، على العكس، يمكن للمبدع هنا التحكم في سير السيل الرقمي، بتحديد مساره أو تمظهراته، تحجيم نطاق احتمالات التمظهر، الأمر الذي يترتب عليه معرفة المبدع بما يلزم من تقنيات لذلك. وهنا: هل يمكن إعادة تشكيل النص في تشكيل السلسلة الرقمية؟. ربما أبسط الصور لتبسيط هذا المفهوم، هو النص التشعبي. وهو نص لا يكتفي بذاته، إنما يعول على الروابط التي يتواصل وإياها، قد يكون النص في ذاته رابطاً، وقد يؤلف في مجموع مكوناته، مجموعة من الروابط. وهذه الروابط قد تكون في اتجاه واحد، حيث يقود النص لآخر وهكذا في حركة اتجاهية أو التفافية بالعودة لنقطة البداية، أو في اتجاهين، بإدخال المتلقي في دائرة النص فيما يعرف بالنص التفاعلي. وإن كان أمر توجيه النص وبالتالي القراءة في يد المبدع في الحالة الأولى (الاتجاه الواحد)، فإنه في الحالة الثانية يخضع لذائقة المتلقي وتواطؤ المبدع مع قراءته –أي المتلقي- للنص. وفي تجربتنا العربية، لا نجد أثراً للنصوص المولدة، على العكس من النصوص التشعبية/الترابطية، وربما يعود السبب لصعوبة التعامل مع اللغة العربية تقنياً، وأيضاً عجز المبدع تقنياً.
مسألة أخرى تفرض نفسها هنا، وهي علاقة النص الرقمي بآلية العرض؟، أو كما توقفنا عندها: ما هو النص خارج جهاز الاستعراض أو العرض (حاسوب، هاتف نقال،…)؟ وهل تختلف صورة النص باختلاف وسيلة العرض؟. أولاً لا وجود للنص الرقمي خارج المجال الإلكتروني، أو الآلة الألكترونية التي تقوم على استقبال النص واستعراضه، باستخدام الرقمية أو التقنية الرقمية، الأمر الذي يفرض على المبدع الإلمام بهذه التقنية واستخدامها، لتنفيذ ما يريد، وهذا الاستخدام يتم من خلال مجموعة من البرمجيات المساعدة. وتأسيساً على ما ذكر، فإن النص الرقمي وليد التقنية الإلكترونية (الثورة المعلوماتية أو الرقمية). وهنا نقف على الجهة المقابلة للمفهوم السابق. هنا النص يعتمد على صورته الظاهرة، أو الصورة التي يقدمها العارض والبرنامج المستخدم لذلك، بمعنى إن مواصفات النص المُستعرَض تعتمد على برنامج العرض أو برمجيات العرض، والاشتغال هنا يتم على هذه الصورة، بما يُتاح من برمجيات، في تقطيع النص وإضافة المؤثرات الصوتية والمشهدية والتشكيلية، أو اشتغال النص بإنشاء تصور أو رؤية مُسبقة له. وهنا النص يكون تحت تصرف المبدع بشكل تام، والذي يصدّر لنا قراءته أو رؤيته الرقمية للنص، أو يخاطبنا من خلال ما يمكن استخدامه من برمجيات وما يمكنها من طاقة إبداعية، وهذا النمط نراه الشكل الأوفر حظاً، بالرغم من كون ما يقدم من نصوص بهذا المفهوم تتفاوت بين الاشتغال المحترف والعادي البسيط، إذ الجودة مرهونة بأسلوب العمل وطبيعته، وطريقة تنفيذه. ويضمن النسق الرقمي وحدة شكل العرض، في حدود طاقات المُستعرِض والمتلقي.
وأزعم إن مسألة تعاطينا مع النص الرقمي أو الأدب الرقمي، مفهوماً وتجربة، يعكس علاقتنا كمجتمع عربي بالتقنية (التكنولوجيا)، وهي علاقة ارتياب، والتي أصبحت المحرك الجوهري للعصر الحاضر، وهي الكفيلة بضمان وجودنا. وبشكل عام، مفهوم النص/الأدب الرقمي ما يزال ملتبساً بعض الشيء، ليس في تجربتنا العربية فقط، لحداثة عهدها بهذه التقنية، إنما المسألة في التراكم الثقافي، ونحن نحتاج إلى قدرٍ من التراكم الكفيل بدعم التجربة، للإجابة على كثير الأسئلة.
نشر بصحيفة فبراير/ العدد: 77/ 15-12-2011
_________________________________________________________
حوارات منتدى الكلمة نغم حول المقال