نشرت بصحيفة الصباح (الصباح الثقافي)، العدد: 218 التاريخ:الثلاثاء الموافق 4 فبراير 2020.
مخـير أم مسـير؟
ما إن انتهيت من قراءتي لهذه الرواية، حتى وجدتني أقف أمام السؤال الأزلي: هل الإنسان مخير أم مسير؟ السؤال الذي أخذ نصيباً كبيراً من قراءاتي في صباي، وبحثت فيه كثيراً لمحاولة الوقوف على الإجابة، لأجد نفسي انصرفت عن البحث في هذه المسألة، حتى وصول هذه الرواية، فالكاتب هنا يمارس لعبة مع القارئ لعبة الغميضة، ففي اللحظة التي كنت أتأكد فيها أنا مسيرون، أجد (مخير) مختبئة في نهاية المقطع.
الحـكايـة
السؤال الثاني الذي قفز إلى رأسي، هو هل ذهبت حياة “هيبة” طراطيش؟
بمعنى ما الذي دفع الكاتب “خليفة صالح احواس” لإعادة رواية سيرة حياة شخص لم يكن له أثر في التاريخ والمجتمع؟ شخص عاش على الهامش مثل كثيرين نصادفهم في حياتنا! وفي ظني إن “احواس” كان يهدف من تناوله أحد شخصيات الهامش أو المسكوت عنهم؛ أولاً أن ثمة علاقة تربطه بهذا الموهوب، وثانياً رفع الغطاء عن هذا الهامش الكبير في حياتنا، وأخيراً محاولة الإجابة عن سؤال الحياة الأكبر؛ هل حياتنا في نهايتها تذهب طراطيش؟
“هيبة الموهوب” بطل الرواية*، شخصية عادية جداً لا تحمل من صفات التميز إلا استسلامها لقدرها، وتصاريف الحياة التي حولته من تلميذ (مزبك) إلى راعي غنم، يجيد الرعي والتأمل ورعاية الحيوانات، والاستفادة مما يتاح من فرص تأتي رغم شحها. لكن الرواي “احواس” رأى أن هذه السيرة تستحق السرد، وانتشال بطلها من حفرة النسيان.
لا يملك “هيبة” الكثير ليميزه عن غيره من أقرانه، إلا محبة والديه ورضاهم عنه، وحفاظه على برنامجه اليومي، الذي لا يتغير، كان محيطه الصغير يكفيه، ويلبى حدود معرفته، البيت، الزريبة، المرعى.
كل ما وخارج هذا المثلث غريب (غير معلوم)، هذه البساطة (الفطرة) التي جبل أو فرضت على “هيبة” كانت الدافع دائما للاستكشاف، والمحاولة، دون المغامرة مخافة الخسارة، والفـقـد.
وعلى هذه الوتيرة، تسير حياة “هيبة” حتى اختطافه من أهله، وتحوله من مواطن عادي لا يملك حتى بطاقة شخصية، إلى جندي في معسكر (الأصيلع) ينهي فترة الأساس بتميز، ها الاختطاف الذي وسع من دائرة معارفه، ليكتشف أن له شركاء في الوطن، وأن ثمة عدو يتربص بوطنه، فيذهب لملاقاته، فيصيبه ويعود بإصابة.
ولأن قواعده مؤمنة، يعود “هيبة” إليها واثقاً منها بعد انتهاء خدمته بالجيش متقاعداً، ليحدث ثاني تغيير بحياته، هو اتجاهه للمنارة ومن بعد زواجه. حتى يدخل الامتحان الحقيقي، وهو؛ طلب الأولاد! الذي يجتهد فيه في مجتمع بدوي يهتم بالنسل والذرية، خاصة وإنه وعد بجبر خاطر والديه بتسمية أبنائه على اسميهما. وهو ما تأجل حتى جاءه الموت موجهاً من السماء، وهو رافع يديه إليها يلهج بالدعاء.
أسئلة
الكثير من الأبواب افتضت مغاليقها الرواية، أغلقت بعضها، وتركت بعضها مفتوحاً، والقليل موارباً!! بحيث لا ينقطع التفكير فيما وراء هذه الأبواب حتى بعد انتهاء من قراءة الرواية، وهي محاولة ناجحة من الكاتب لشدنا إلى الرواية، وإثارتنا.
أشرنا سابقاً إلى سؤال: هل الإنسان مخير أم مسير؟، وهو أحد الأبواب الكبيرة، التي ظلت مواربة حتى نهاية، الرواية. وهو أزلي يظل يشغل بال الإنسان حتى نهاية حياته.
العلاقة بالآخر؛ هي أحد المسائل المهمة، إذ أين تنتهي حدود هذه العلاقة وكيف تتشكل، بل وإلى أي حد يمكنها تذهب عميقاً (تأثيراً)؛ وهي مسألة شائكة ومعقدة في المجتمع الليبي، الذي تتحدد فيه العلاقة بالآخر بدرجة القربى، وبالتالي ما قابه آمر المعسكر من إقحام “هيبة” في أسرته، مسألة تقرأ في وجهين؛ وجه أول يعكس درجة اطمئنان آمر المعسكر، ووجه ثان يعكس درجة استغلاله لمن هم تحت إمرته من جنود، وفي ذات الوقت يشرع هذا الوضع آخراً موارباً عن درجة فساد النظام، واستغلاله للمواطن، والمواطن “هيبة” بشكل خاص، واستغلال بساطته وسذاجته، التي يستهلكها المجتمع، ويقدرها الإيطالي.
المعرفة؛ كثيراً ما أستشهد باقتباس عن رواية (الفم) للروائي “إبراهيم الكوني” يقول فيه: (السوء في المعرفة!)، فهل المعرفة سوء؟
يبدو أن مسألة الجهل والمعرفة مسالة مُختلفٌ في قراءتها، لكن في حدود الرواية؛ كانت المعرفة سوء، فهي لم تخدم “هيبة” بقدر، ما حجمته، وجعلت الآخر يستغل جهله. وهنا علينا أن ننتبه إلى ثنائية مهمة ركز الكاتب عليها؛ ونقصد: المعرفة والفهم، إذ هما في الثقافة الشعبية يحملان ذات المعنى والمدلول، الفهم يعني (=) المعرفة، والمعرفة تعني (=) الفهم، بينما الجهل صورة واحدة.
لكن مشكلة جهل “هيبة”، تصالحت مع المعرفة والفهم حلت مع دخوله الجامع. لكنه كان دخولاً شكليا غير معرفي.
المواطن والدولة؛ أحد الأبواب المواربة، والتي لم تكشف، أو لم يرد الكاتب أن نكتشف ما وراءه، إذ ظلت العلاقة بين “هيبة” والدولة، غير واضحة، فهيبة لا يمتلك أوراق ثبوتية، حتى احتاجت الدولة لوقود لحربها، فاختطفته من السوق، وتسوقه إلى الحرب، ومن بعد ترميه من شاهق، ليقع على دينارات المرتب الضماني.
التصالح مع الذات؛ هو أحد الأسئلة، أو الأبواب، الذي يدخلنا إلى باب آخر؛ باب الرضا والقناعة (بالقسمة والنصيب)، وهو القانون الذي عاش به “هيبة” حتى نهاية حياته. في أحلك الظروف كان هذا القانون ينجح في تجاوز الكرب، وتخطي الصعاب، واحتمال المصائب. بهذا القانون استطاع “هيبة” أن يأسرنا إلى سيرته، وأن يكسب تعاطفنا، وأن ننتظر حتى نهاية حكايته الحزينة، حيث انتهت سيرته.
نـوفـيـلا
يمكن تصنيف هذه الرواية كرواية قصيرة، أو نوفيلا (Novella)، وهو الشكل الروائي الذي يتخذه الكثير من الكتاب، كون هذا الشكل الروائي، يلبي حاجة الاقتصاد الروائي، والتركيز، بحيث تتخلص الرواية من الكثير من التفاصيل، ولا يعود القارئ محتاجاً لتتبعها، إنما تتبع الخيط الذي يرسمه الكاتب. في هذا الشكل، يكون الراوي العليم مسيطراً وممسكاً بكل أحداث الرواية، بل ويوجهنا كما يريد. ولأنها حكاية إنسانية، حكاية “هيبة الموهوب” فإن هذا الشكل الروائي ينجح في تتبع سيرة شخص أو حدث، دون الذهاب في التفاصيل أو البحث وبناء شجرة من العلاقات.
على مستوى السرد، لم يغامر الكاتب في الذهاب في السرد بشكل أعمق، ظل محافظاً على مستوى ثابت من الإيقاع، حتى في اللحظات الحرجة في الرواية، بما يوافق إيقاع بطلها؛ “هيبة”!! الهادئ.
___________________________
* خليفة صالح احواس (هيبة الموهوب)، يافا للبحوث والدراسات والنشر والتوزيع، تونس 2018.