الخـطـرُ الأمـازيـغـي

مصطلح (الأمازيغ) من المصطلحات التي تعرفت إليها مؤخراً، أو لنقل في الجزء الأول من حياتي الثقافية، وبالتحديد في بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث كنت –حتى وقتها- أستخدم التعريف المحلي المقابل للمصطلح (الجبالية)*.

(الجبالية) كانوا جيراننا لسنوات طويلة، قبل أن يتركوا الحي للسكن إلى آخر، ويجيئ غيرهم، ولا زلت أذكر كيف ودعناهم وودعونا بالدموع، ومازلنا على تواصل. تربيت في بيتهم، أكلت من خبزهم وتذوقت ملحهم، وكنت أحب البيض المقلي الذي كانت جارتنا –الله يذكرها بالخير، هي جدة الآن- تعده على طريقتها الخاصة. لعبنا سوياً، تخاصمنا، تصالحنا، كنا صغاراً، وكان الفرق الوحيد هي اللغة التي يتحدثونها، والتي استطعت التقاط العديد من مفرداتها، درجة فهمي وتحدثي بها قليلاً.

في الجامعة جمعتني قوائم التنسيب بزميل دراسة، درس هو الميكانيكا ودرستُ الطيران. في استراحاتنا كنّا نتحدث كثيراً في هموم الثقافة، كان يقرأ ما كنت أنشره على صفحات (الطالب)**، ويشاكسني فيه معلقاً وغامزاً. تعرفتُ من خلاله للشعر الجبالي، والأغاني الجبالية، كان يغنيها بصوت رخيم، وعند الانتهاء يقوم بشرح البيت. منه عرفت مصطلح (الأمازيغ)، وكيف أنهم ممنوعون –كمجتمع- من دراسة وتعليم لغتهم، ومن ممارسة عاداتهم وطقوسهم الثقافية والاجتماعية بشكل علني، فشكراً يا “طارق”.

 

كنت أسمع من يقول: إنهم يريدون أن ينفصلوا على ليبيا!!!. ومن يقول: إنهم يريدون الانضمام للجزائر؟!!!. ومن الجانب الآخر: أنتم اللي جيتونا وسكنتوا في أرضنا!!!. وأسمعُ وأسمع، وأسمع.

 

حاولت البحث كثيراً فيما يتعلق بالأمازيغية تاريخياً وثقافياً، لمعرفة الخطر الكبير الذي يجعل الدولة –نظام الطاغية- تقوم بمحاربة أي محاولة للتعريف بهم كقيمة ثقافية وتاريخية، حد منعهم من استخدام اسمائهم التراثية أو التي تعرف في الثقافة واللغة الأمازيغية. هل هم على هذا القدر من الخطر؟، لتوجه الدولة آلتها لمحاولة إثبات الأصل العربي لهم، هل نحتاج هذا الإثبات؟ وهل يحتاجونه؟، وهل يضيف حال تحققه شيئاً؟. بمعنى، إلى أين نريد الوصول؟ هل هو بحث في القصور المعرفي، أو الثقافي؟ أو تشكيك في هوية؟. ولأني أثق في الكتابة –المعرفة- الكتفيت بما تحقق في داخلي واستيقن.

 

أعتقد إن أصل الخوف –خوف نظام الطاغية-، هو استقلال الأمازيغ –كمجتمع- تاريخياً وثقافياً عن المحيط الذي يعيشه جغرافياً (المكان)، وبذات القدر من الانصهار في ثقافة من يجاوره –من مجتمعات-. بالتالي لا يمكن العبث في هذا البعد التاريخي والثقافي، إلا فيما يتماس مع الخط العام للمجتمع في مجمله، أي التاريخ المشترك للمنطقة والثقافة المشتركة للمجتمع. الأمر الذي جعل من الصعب على نظام الطاغية العبث في الهوية الأمازيغية، أو التشكيك فيها، كما حدث في الكثير من مكونات تاريخ المجتمع الليبي بتغييب فترات زمنية، وإظهار أخرى، أو خلق حوادث تاريخية لأشخاص لم يكن لهم من دور، أو تشويه صور شخصيات أخرى، خاصة فيما يخص تاريخ الجهاد الليبي، فكان من الضروري إقصاؤها.

 

إن حكاية الخطر الأمازيغي –المزعوم-، مثلها مثل الكثير من الحكايات التي روج لها نظام الطاغية، بغاية تجهيل المجتمع وإغراقه في دوامة من الخوف والقلق من الجار الساكن بيننا، الذي ينتظر لحظة الغفلة لغرز سكينه في ظهرنا، مما أوجد حالة جفوة كان نتيجتها انحلال النسيج الليبي، والذي عادت ثورة 17 فبراير لرأبه، في تلاحم الثوار يداً واحدة من أجل ليبيا. وإلا لكنا كسبنا بعداً ثقافياً وتاريخياً لمجتمعنا، الذي يزداد غناه بما يقدمه من تشكيله منوعة من ثقافات سكانه، من الشمال للجنوب، ومن الشرق للغرب، ثقافة الساحل وثقافة الصحراء، ثقافة الحضر وثقافة النجوع، ثقافة السهل وثقافة الجبل. إن هذه الثنائيات أو المجموعات الثقافية يمكن أن تكون مصدراً اقتصادياً مهماً لو عرفنا كيف نقدم هذا الغنى المعرفي ونستثمره. بدل أن يحبسنا نظام طاغ، كل همه مزيداً من إحكام القبضة الأمنية، لطمس هوية وإقصاء لغة وثقافة، هي موجودة كمفردات وعادات فيما نتداوله من حديثنا اليومي ونسيج المجتمع الليبي.

 

وهنا أطالب –كمثقف- بفتح التعليم باللغة الأم، لكل المجتمعات التي تتمتع بهوية لغوية خاصة، واستخدام اللغة إعلامياً للتواصل، والتعريف أكثر بما تستطيعه هذه اللغات من قدرة على التحميل المعرفي والإبداعي. مما يساعد أكثر على دمج الثقافات فيما بينها وتفاعلها. وهذا لا يعني الاعتراف باللغة، بقدر ما يعني الاعتراف بهوية مكونة لأحد خيوط النسيج الليبي المميز في تنوع ألوانه وجودة غزله وتماسكه. لنكون كسبنا رهان ليبيا الجديدة.

________________________

* يعود سبب التسمية بـ(الجبالية) لاتخاذهم جبال نفوسة مستقراً لهم، وهي امتداد لسلسة جبال أطلس، وهم يعرفون بأمازيغ الجبل. بينما يطلق على أمازيغ الساحل (الـزّواريّة) نسبة لمدينة زوارة التي يسكنونها.

** الطالب، صحيفة كانت تصدر عن اتحاد الطلبة، وكنت أنشر على صفحاتها نصوصي الشعرية والقصصية، وبعض المقالات، من بداية 1991، حتى تخرجي من الجامعة.

 

 

المقال منشور بمجلة الكاف

الخـطـرُ الأمـازيـغـي

هل أنا كافر؟

الأسبوع الماضي ساقتني الأقدار لأكون رفيقاً أحد الأصدقاء في واجب عزاء. كانت البداية من مهاتفة لأخباري بموعد وصوله، وحال صعودي السيارة أخبرني أنه سيمر بصديق آخر، كنت قد التقيته مرة أو اثنتين من قبل، وهو كما أُخبرت عنه (طالب علمٍ شرعي).

كان حديثنا ينصب حول الانتخابات وخاصة المرتشحين لانتخابات المجلس الوطني، فصورهم موزعة في الشوارع وعند إشارات المرور، كل حسب منطقته. إشارة المرور بطيئة، منحتنا فرصة قراءة الأسماء والمؤهلات والتمعن في الصور، والتعليق عليها، وإلا (ما ناش ليبيين).

وصلنا بيته، لنجده واقفاً عند المدخل الرئيسي للبيت، سلم وصعد السيارة. وبعد السلام والسؤال على الأهل، طلب من صديقي فتح الراديو على قناة 105 إف=إم. وكان على البث درس ديني. سأله صديقي:

– من الشيخ؟

– الشيخ “مقبل”.

كان حديث الشيخ حول حل الانتخابات وجواز الانتخابات، استمعت للدرس، حتى أن وصل صاحب الدرس إلى: (ففتوى الشيخ بن باز، بجواز الانتخابات باطلة، وفتوى الشيخ بن العثيمين باطلة، وفتوى الشيخ الألباني باطلة)، واستمر يستعرض بطلان الفتاوى حتى قوله: (ولا بد إنهم أرسلوا للفتوى، رجلاً في مظهر أهل السنة، لحيته إلى سرته، وجعل يقول للشيخ، يا شيخ إن لم ندخل الانتخابات فإن الشيوعيين والماركسيين، سيكون لهم السبق، ولا يعود للدين من مكان).

التفت إلى صديقي، فابتسم في وجهي، ولم ينبس ببنت شفة، كان الشيخ في محاضرته أو درسه يشن هجمة قوبة على الانتخابات ومن يدعو لها وإلى الديمقراطية، وهو يقول إنه لا شيء في الكتاب والسنة يقول بالانتخابات وإنها دعاوى تضليل ليصل لفتواه (فكل من قال بالديمقراطية والانتخابات هو كافر)، عندها وجدتني أقول:

– لله الأمر من قبل ومن بعد. إنا لله وإنا إليه راجون.

انتبه صديقي إلي، لكنا وصلنا محل العزاء، وكانت صلاة العشاء قائمة، فأسرعنا باللحاق بها، وصلينا في ذات الصف. ولا أعرف كيف نسيت موضوع الدرس والفتوى، ربما وجب العزاء، وحديث الأنس الذي دار. حتى صعودنا من جديد السيارة وسؤال صاحبنا:

– هل القناة مازالت موجودة.

وانطلق صوت الشيخ “مقبل” من جديد، بدرس آخر لحظتها التفتت إلى الخلف:

– عفواً، ما اسم هذه القناة.

فرد:

– لا، إنها ميزة بجهازي النقال تمكنه من البث عبر جهاز الراديو.

لحظتها قفزت إلى قمة منحنى الغضب (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأصمت، تركتهما في حديثهما، وغالبت نفسي، حتى وصوله بيته، ونزوله. لأنفس عن نفسي قليلاً بالحديث مع صديقي، بفاجعتي بما سمعت وتطرف البعض لهذا الحد. ألا يكفي أنهم دعوا إلى التزام البيوت (اتقاءً للفتنة) و(عدم الخروج على ولي الأمر) حتى لو ركب ظهري. وها هم اليوم يقولون بحرمة الانتخاب، وأن من يقول بها وبالديمقراطية كافر:

– والله عجيب، كيف صلى إلى جانبي، أم إن صلاتي لا تقدم و تؤخر، أم أني لا شيء.

حاول صديقي تهدئتي، وأن ما حدث ما هي إلا محاولة من صاحبنا لتوعيتي أو إعلامي برأي الدين:

– كانت نيته أن يعرض عليك وجهة نظره.

– أي وجهة نظر هذه، التي يعلن فيها كفري، حكماً قاطعاً بطردي من رحمة الله، وأن جهنم مصيري ومآلي. فإما رضيت بما يقول وإلا ناراً ذات لهب.. لله الأمر من قبل ومن بعد.

كنت قبل فترة قد خضت في حديث معه، حول رأيي الشخصي حول الجماعات الدينية، من الإخوان إلى السلفية بمختلف مرجعياتها، وأنهم كلهم خير وبركة، وأني لا أرفض إلا من يناطح ويجبرني على الأخذ برأيه، خاصة في المسائل الخلافية، فالخلاف رحمة وسِعة، وإلا لأستمر نزول الأنبياء والرسل لتصحيح ضلالات الأمم. ألم يختم عز وجل رسالته التي حملها آخر أنبيائه الكرام بقوله: (..اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا../ المائدة – آية 3)، إنه في هذا الإعلان يؤكد أن رسالة السماء قد توقف، لتستمر رسالة الأرض، رسالتنا، الأمانة التي حملها الإنسان وارتضاها (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَىٰ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا/ الأحزاب – آية 72)، بما فيها من مسؤولية وتبعات. وعن نفسي لن أسمح لأحد بأن يرسم لي طريقي ونهجي، أو أن يقوم بدور الرقيب الموجه، أرفض وبقوة أي تدخل في علاقتي بربي الأعلى، ولن أرضى بأن تُـفرض علي وصايا وشروط، تعبر عن وجهة نظر أصحابها واجتهادهم، فلكل مجتهد نصيب (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب، فله أجر واحد/ حديث شريف)، لن أرفعهم إلى مراتب الأنبياء، أو أن يتحولوا إلى أيقونات، يؤخذ عنها ولا يرد (كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر/ الإمام مالك بن أنس)، ألم يراجع “الإمام مالك بن أنس” في أكثر من مسألة أجاب عليها بـ(لا أدري). ومن تلك الليلة، وأنا أعيد السؤال، وسأظل: هل أنا كافر؟.

هل أنا كافر؟

فرسان الأحلام الحية

قراءة في رواية (فرسان الأحلام القتيلة)، للروائي إبراهيم الكوني.

حال قراءتي لهذه الرواية، أحسست اختلافها عما كتبه “الكوني” من قبل، ربما بسبب طبيعتها، وقربي من الأحداث ومعاصرتي لها. وربما لأنها اختارت عالماً مختلفاً عما عهدنا من مبدعنا بالدخول بنا مجاهل الصحراء، ومعاركة الرمال. ولأحساسي بقربها مني –كثيراً- لم أتوقف عن قراءتها حتى أتيت عليها*. لكن الكاتب ظل محافظاً على أسلوبه السردي الهادئ، وصوره المشغولة بتجريدٍ محفوف، ورؤيته المحددة، وبنائه لأنساق وعلاقات معرفية في أكثر من مستوى تتوازى، وتعمل في أكثر من اتجاه.

“فرسان الأحلام الحية” متابعة القراءة

فرسان الأحلام الحية