رامز رمضان النويصري
في النهاية وصلت إلى هذا التعبير او الصيغة للتعبير عما خرجت به من قراءتي لهذه المجموعة؛ (الكتابة بحبر الحنين)، وهي صفة يمكننا أن نطلقها على مجموعة من الكتابات الأخيرة، التي بدأت تزين المكتبة الليبية، وخاصة فيما يتعلق بالسرد، وأكثر تحديدًا؛ القصة القصيرة، ومن بعد الرواية.
فبالرغم من تراجع القصة القصيرة في ليبيا، في جانب النشر، عن مكانها الذي ظلت تتقدم بع عن بقية الأجناس الإبداعية، إلا أنني مازلت أقول وأؤكد، أن القصة القصيرة الليبية أقرب الأجناس الأدبية للتعبير عن الواقع الليبي، والمجتمع الليبي، ورصده في جميع ومختلف مراحله، وتجاوزها بسرعة عتبة؛ (قصتنا بنت حرام)1.
بالعودة للمجموعة التي انتهيت قبل دقائق من مطالعتها، أجدني أقول: ها هو “بوكليب” يعود من جديد ليأخذنا في رحلة جديدة في عالم الحنين، على مركبة من كلمات، اختار طريقها بذكاء وناكف فيها المسافات والزمن.
الزمن والمسافة، معاملان لا يعول عليهما الكاتب والأديب “جمعة بوكليب” كثيرًا، في مجموعته القصصية (مناكفات الربع الأخير)2، فهو لا يهتم بالتاريخ ولا يعمد إلى إثباته توثيقاً، وكأنه يختبر مهارتنا في الاستدلال وربط الحوادث إلى الرزنامة، على ذات القدر، نجده ملاحًا ماهرًا لا تشعر معه بحركة المركبة وهي تنتقل بك من لندن إلى طرابلس، إلى أنجامينا، وغيرها، عبر المسارات الجوية والأرضية، أو وهو يتجول بك في الشوارع والأزقة هنا وهناك.
كما تكشف هذه المجموعة، عن عين مدربة على التقاط التفاصيل، وهو ما لمسته منذ أولى أعمال “بوكليب”، واكتشاف المخبوء منها، والمتواري خلف الحجب، وعن بصيرة قادرة على اختراق الآخر، والغوص بسهولة وسلاسة، ورشاقة، وذكاء.
القصة عند “جمعة بوكليب” مختلفة، فهي خليط بن الكتابة القصصية المدرسية والحكاية، وإن غلبت الأخيرة، حيث يتغلب القصد من فعل القصّ على الشكل والشروط الفنية -إلى حدٍ ما-، من أجل إنتاج نص أدبي راصد، يستفيد من مخزون الكاتب الثقافي والمعرفي، وما تحتويه ذاكرته من مشاهدات وخبرات حياتية، بذا تكون النصوص المنتجة أقرب للنصوص الذاتية، التي تتمحور حول الكاتب (معنويًا وماديًا)، أقرب للحكاية الشخصية، مما يكسبها القدرة على المرور للآخر، واستقبالها بشكل سلسل، يعتمد العاطفة والتأثير بالرواية!
الكاتب “جمعة بوكليب” يحول تجاربه إلى نصوص قصصية، غايتها البوح، أو الإيناس/الرغبة إلى فعل الحكي، وبخبرة حكاء يستطيع -بوكليب- الوصول إلى قلب القارئ قبل عقله، بطريقة مباشرة وموجهة، تعتمد لغة سلسة وبسيطة، محملة بالمعاني والصور، والمؤثرات البصرية والحسية التي يزين بها حكاياته!
في الحكاية، يتخلى بوكليب عن بدلة الكاتب -النخبوية-، إلى ثياب مواطن بسيط، يجلس إلى أحد الطاولات في أحد المقاهي، وحوله مجموعة من الأصدقاء ينصتون إليه باهتمام وشغف، وكلهم انتباه لأن كلهم أبطال مشاركون، في شكل من أشكال الواقعية التي تستمد مادتها من الماضي والحاضر والمستقبل، بأسلوب سردي يتم التمهيد له بمقدمة في تبدأ من منطقة قريبة من الحدث، يتعمد الكاتب أن لا يرتفع فيها بإيقاع النص كثيراً، محافظًا على إيقاع شبه ثابت حتى نهاية النص، المكون نسيجه من ألوان ومواد مختلفة، فيها الحكاية، والخراف، والجريدة، ودخان السجائر والرمال، والطائرات والمطارات، والمنافذ، والشوارع، وغيرها وغيرها.
فيما يتعلق يالسرد، نجد إن الكاتب جمعة بوكليب، شديد الاهتمام بتكوين الجملة، فهي وإن تفاوتت في الحجم (الطول)، فإنها تتناسب مع عمق الحدث وأثره في النص، فنجد الجمل القصيرة الراصدة، والجمل الطويلة الواصفة الساردة.
17 قصة قصيرة، قسمت إلى 5 أبواب؛ باب السؤال، باب دُخلاني، باب دوَّار، باب الحب، باب الخروج، وكأنه يحاكي أبواب طرابلس القديمة -أو هكذا أزعم-، في استدعاء عاطفي للمكان، محاولة لربط الأحداث بنقطة محورية، من 5 مداخل، كلها تقودك إلى القلب.
أما عنوان المجموعة (مناكفات الربع الأخير) فإني توقفت أمامه طويلاً قبل الولوج للمجموعة، وبعد الانتهاء منها، فإن كنت أعي معنى المناكفة، فما المقصود بالربع الأخير؟ فصفة الأخير، تهني النهاية، أما الربع الموصوف، فهو كمية غير محددة الوحدات، فهل هي: زمن، مسافة، حجم، وزن؟
أخرج من هذه التساؤلات، مضمراً ما وصلت إليه في نفسي، خاتماً بملمح فني يعتمده الكاتب “جمعة بوكليب” فب غالب غنتاجه، وهو أن يهتم بعبارة، قد تكون في شكل: جملة، حكمة، قول، في قفلة تذكرنا كيف كان الجد أو الجدة يختمون حكاياتهم!
في انتظار ما بعد الربع الأخير!
1- أقصد، سؤال الكاتب والقاص الليبي كامل حسن المقهور.
2- جمعة بوكليب (مناكفات الربع الأخير)، قصص قصيرة، دار الفرجاني، القاهرة، 2023م.
لمست الكثير من النقاط المهمة في هذه المجموعة.
شكرا لك وللكاتب جمعة بوكليب الذي أمتعنا بهذا الحنين
نشكر مرورك الكريم…