القطيع والكتابة بإصبع واحد!!!*

القطيع (الصورة: عن الشبكة)
القطيع (الصورة: عن الشبكة)

إيكو يتراجع سريعاً!!

أمبرتو إيكو (5 يناير 1932 – 19 فبراير 2016م)، الروائي الإيطالي قبل وفاته كان أن تراجع عن رأيه الخاص بشبكات التواصل، فمع انتشار الإنترنت كان “امبيرتو” من أشد المعجبين بها لفتحها باب التواصل والاتصال والمعرفة بأشكالها المختلفة على مصراعيها بين الناس. غير أنه راجع موقفه بعد ذلك ودقّ ناقوس الخطر، محذراً من مغبة سيطرة الأغبياء على هذه الوسيلة التكنولوجية الحيوية.

يقول “إيكو”: (أدوات مثل تويتر وفيسبوك؛ تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء)

إثر هذا التصريح تصاعدت صيحات النقد والاستنكار، متهمة “إيكو” بالنخبوية واحتكار الحق في التعبير، بل هناك من اتهمه بمعاداة الديمقراطية لأن الإنترنت هي أغورا جديدة وكبيرة يجب ألا يُقصى فيها أحد.

وأما هذه الاعتراض، عاد الكاتب “امبرتو إيكو”، إلى نفس الموضوع في عموده الأخير في مجلة (إسبريسو) الإيطالية، واقترح الاحتكام إلى مبدأ واضح: (لا يحق لأي شخص الكلام في موضوع ما إلا إذا كان ملماً به إلماماً كبيراً! لكن هل بوسع أحدٍ إسكات الأغبياء؟).

تغير المفاهيم!!

يمثل الانتقال من الـ(web 1.0) إلى الـ(web 2.0) تطورا مهما وكبيرا في الإنترنت، وهو الذي أتاح لمستخدمي الإنترنت التواصل والتفاعل بشكل أكثر فاعلية، مغيرا بذلك مفهوم وفلسفة شبكات التواصل والاتصال عبر منصات التواصل الاجتماعي. وبالتالي انتقل المستخدم من الاتصال إلى التواصل، إي: من مجرد نقل المعلومة أو الأخبار إلى التأثير والإيهام والإغراء. الأمر الذي أتاح للكثير من مستخدمي الشبكة مع سهول التواصل والاستخدام نشر ما يريدون والحديث عما يريدون دون أي اعتبار قيمي؛ وهو ما أشار إليه الروائي الإيطالي “أمبرتو إيكو”.

وتأسيسا على ما سبق فإن الكثير من العلماء والمختصين، وجدوا أنفسهم أمام الكثير من الظواهر الأخلاقية التي صاحب التواصل ومنصات التواصل الاجتماعي فيما يعرف بأخلاقيات الشبكة.

شيزوفرينيا!!

يعرف مصطلح (الحياة الافتراضية) أو (الواقع الافتراضي) بأنه: (محاكاة الحاسوب للبيئات التي يمكن محاكاتها مادياً في بعض الأماكن في العالم الحقيقي، وذلك في العوالم الخيالية). ومع إنه هذا المصطلح ارتبط بمحاكاة الحاسوب عن طريق البرمجيات والتطبيقات ومؤخرا الذكاء الاصطناعي للبيئات المادية، إلا أنه الآن أكثر ارتباطاً بمنصات التواصل الاجتماعي، والتي تستأثر بوقت الكثير من مستخدميها، وتربطهم إليها أو تحبسهم إلى خاصية التنبيهات. الغريب في هذا الأمر إن الحياة الافتراضية على منصات التواصل لا يحاكي فيها الحاسوب بيئة ما!! وهنا نخص بحديثنا منصات التواصل كـ: فيسبوك، تويتر، لينكدن إن، ومثيلاتها. فالتواجد على هذه الشبكات يتم من خلال التواصل، وبناء شبكة من العلاقات، والتي تصنفها هذه المنصات والشبكات على إنها (صداقة)، مما يمنح التواصل بعدا إنسانياً بمجرد قبولك لطلب صداقة أحدهم! وهو ما نجحت في هذه الشبكات، فمن خلال صديق يمكنك الوصول إلى مجموعة أكبر من الأصدقاء. هذا الصداقات، تجعلك من التواصل ممارسة إنسانية أكثر منها عملية اتوماتيكية تتم من خلال الآلة، بفضل ما تضيفه هذه المنصات من خصائص إضافة أكثر من نوع محتوى، إضافة إلى الرموز التعبيرية.

هذا الواقع الافتراضي، أو العالم الأزرق كما يسميه الكثير من رواد الفيسبوك، يقوم العقل البشري فيه بالمحاكاة بشكل كامل وبدون تدخل أي من برامج الحاسوب لرسم أو تصور هذا العالم، بناءً على مجموعة من المعطيات التي توفرها هذه الشبكة من صورة الغلاف إلى صورة البروفايل، وما يدرج من منشورات على الحائط والحوائط الأخرى.

هذا التصور، يجعل الفرد في هذا الفضاء الافتراضي يعيش حياة موازية يعتمد فيها على ما ينتجه علقه من تصورات ورأي، وما يتبناه من أفكار، ولأنه ممثل من خلال حساب فقط لا أكثر، يمكنه في هذه الحالة تلبس أي قناع والاستمرار من خلال، ببساطة: شيزوفرينيا!!!

ثـقافة القطيع!

تعتمد العلاقات في غالبية منصات التواصل الاجتماعي على مصطلح (صديق) بمعنى إن التواصل يتم بين صديقي، وهذا يجعل العقل البشري يبني مجموعة من التصورات والسيناريوهات على هذا الأساس (الصداقة)، والتي تسقط نفسها على طبيعة تقبل الآخر، من خلال منشوراته التي تمثل ما يبنى من أفكار وتوجهات. على هذا الأساس تكون المجموعة التي تتبنى فكرة معينة هي مجموعة من الأصدقاء، وهي تستهدف أصدقاء آخرين للانضمام، ومع تقدم خوارزميات هذه المنصات، يتم التوسع؛ بالاقتراح والمشاركة وزيادة فاعلية الانتشار كدالة في عدد المشاركين! وهذا ما يتم استغلاله بشكل مباشر فيما يعرف بالحشد أو التحشيد، ومن بعد تحريك القطيع!

ظاهرة الحشد بدأت تزدهر الآن في مواقع التواصل الاجتماعي -خصوصاً الفيس بوك-، فقد ساعدت طبيعة تكنولوجيا الاتصال في تعزيز ظاهرة الحشد، وكما في الحشد الواقعي الذي لا قيمة فيه للفرد أو لهويته، وما أن تتجمع النواة الأولى للحشد حتى يبدأ الحشد بإطلاق طاقة غريبة أو مجال يشبه المجال الكهرومغناطيسي قد يجتذب المزيد من الأفراد والجماعات الصغيرة الأخرى مثلما قد يستبعد عناصر أخرى. وهذا يتم استغلاله في الترويج على الوجهين؛ سلباً وإيجاباً.

في ظاهرة الحشد أو القطيع يفقد الفرد فرديته ويذوب في كتلة غير متجانسة من الأفراد والأفكار والأجساد والأهداف فيبدو شخصاً آخر تماماً، فهو في الواقع عقلاني معتدل المشاعر والسلوك، أما في الحشد فهو انفعالي متطرف المشاعر والسلوك، حيث يستمد الفرد قيمته من مشاركته بالصراخ العالي الذي يتمثل في (التعليقات)، والصور الرمزية التي قد تمثل سبابا وشتائم أو نصائح ومثاليات، أو في الهمهمة الخافتة التي تتمثل في (الإعجاب) وهو قد لا يعني شيئاً محدداً.

في ثقافة القطيع تنحصر الأفكار فيما يتم تبنيه فقط، دون النظر خارجا، وبالتالي يكون من السهل توجيه وسياسة هذا القطيع. وهذا ما انتبه إليه “إيكو” باكراً وحذر منه.

الكتابة بإصبع واحد!

عقب انتهاء ندوة (الكتابة الرقمية)* للدكتورة “فريدة المصري” والتي أقيمت ضمن الفعاليات المصاحبة للمعرض الوطني الثالث للكتاب، بمدينة طرابلس، نبه الكاتب “حسين المزداوي” أن الإنسان عبر هذه المنصات اقتصر في تواصله للكتابة بإصبع واحد مستبدلا يده التي كانت تحضن القلم، وأن هذا الأصبع الواحد له من التأثير الكثير، من خلال منصات التواصل فيما وصفه بـ(التفاعل القطيعي) حيث يستطيع هذا الإصبع حشط القطيع.

وفي ذات الشأن لم يخفي الدكتور “نورالدين الورفلي” خوفه من استئثار هذه المنصات بالمتلقي وتحول إلى تابع، وبمعنى آخر (فرد في قطيع)، وهذه حقيقة ماثلة ونطالعها بشكل يومي وكبير عبر منصات التواصل الاجتماعي وبخاصة على (الفيسبوك)، وهو خوف مبرر، لأن هذا المتلقي التابع هو متلقي مستلب، وغير واعي، فرد من مجموعة من الأفراد في قطيع يقاد بشكل محترف، ويوجه للغاية التي يريدها القائد أو من يدير هذا الحشد.

خوف “إيكو” مبرر، وخوف “المزداوي” و”الورفلي” مبرر أيضاً، فإن كان الأول نبه إلى الخطر المحدق في حال غابت الثقافة الحقيقية، واستلم الدفة السفهاء، فإن خوف الأخيرين هو النتيجة للحقيقة التي نعايشها نتيجة استمرار هؤلاء السفهاء في الاستمرار.

الجماعة أذكى من الفرد!!

في المقابل ثمة أصواتا قوية في العالم أكثر تفاؤلا لمستقبل الإعلام الاجتماعي (السوشيال ميديا) بشكل عام، بل لأنه في الحقيقة مستقبل الإعلام والاتصال، وبالقرب منه شبكات الإعلام الاجتماعي، فالنظرية التاريخية النقدية تقودنا إلى أن كل وسيلة اتصال جديدة تمر في مرحلة الصدمة ثم مرحلة انتقالية تسودها الريبة والشك والفوضى ويتم عادة توظيف الوسيلة الجديدة لتصبح أداة في يد القوى التقليدية لبعض الوقت ثم تميل أكثر للاستقرار وللتوظيف في خدمة الصالح العام. وعلى هذا الأساس ظهر مفهوم (حكمة الجموع)، والذي أول مرة كمصطلح كتاب حمل الاسم نفسه للمفكر (جيمس سيرويكي) عام 2004م، وتزامن ذلك مع بداية الويب 2.0 وبداية الجيل الأول من شبكات التواصل الاجتماعي.

وفي الكتاب يطرح “جيمس” سؤالاً مركزياً حول حكمة الأكثرية في اتخاذ القرارات في تطوير الأعمال والاقتصاد والمجتمع والأمة؛ أي متى تكون الجماعة أذكى من الفرد؟

هذه النظرية جاءت في سياق ينفي نظرية القطيع التقليدية، المشار إليها سلفاُ،  خاصة في قيادة الجموع وتضليلها، ونلاحظ أن الحديث عن هذه النظرية ازدهر في السنوات الأولى لظهور شبكات التواصل الاجتماعي قبل أن تلتفت القوى السياسية والاقتصادية لمصادر قوة هذه الشبكات وتقوم بما يشبه اختطافها. إن الأمر يذكر بما حدث للمطبعة وللصحافة في بدايتها، لكن في هذه المرة تدخل النموذج الاقتصادي وانحاز للطلب السلطوي والنخبوي من جديد، فالشبكات الاجتماعية شهدت تعديلات عديدة من خلال التدخل في الخوارزميات التي تعمل على أساسها الشبكات. بمعنى أننا ما زلنا في صراع بين فرضية حكمة الجموع وفرضية القطيع فأنصار الفرضية الأولى يذهبون إلى أن ما يحدث لا يعدو أكثر من مسألة وقت.

أما أصحاب فرضية حكمة الجموع يؤكدون على أن المستخدمين والتكنولوجيا في طريقهم للتخلص من الكثير من مظاهر الاختلالات، وسيعملان  على المزيد من التنظيم الذاتي والمزيد من الأدوات التي تمكن الناس من التدقيق، ومن توفير حشود هائلة من المعلومات التي تصحح الأخطاء وتقاوم التضليل كما لن تكتفي بذلك، حيث ستعمل الحشود الهائلة من الأفكار والنقاشات على تعليم الناس الديمقراطية العابرة للثقافات، فيما ستكون الأجيال القادمة التي تتعلم وتتسوق وتعمل من خلال الإنترنت أكثر قدرة على الاستفادة من هذا الكم الهائل من المعلومات والآراء وأكثر قدرة على التركيز والعمق.

ماذا بعد؟

أرى أنه من المهم أن نفهم إن الوقت يمكن اختصاره، والقفز عليه، أما كيف؟ أن يكون الفرد مستقلا بأفكاره خارج القطيع والقطعان، وأن يعمل أن يكون وجوده على الشبكة للفائدة الشخصية، وإفادة ومساعدة الغير. ولأن منصات وشبكات التواصل بنيت على أساس إن يكون الفرد المستخدم لها ضمن مجموعة من العلاقات، هنا سيكون من المهم الوعي بهذه المسألة ومعرفة حدود ومساحة الحركة في هذا الفضاء، وتكوين حدود واضحة وفاصلة في تداول ونشر الأفكار وتبنيها، لبناء شخصية مستقلة غير تابعة، كما المنارة.

_______________________

أقيمت بتاريخ 29 ديسمبر 2021م.

نشر بمجلة البيت، السنة 48 – سبتمبر 2021م.

القطيع والكتابة بإصبع واحد!!!*

تعليقان على “القطيع والكتابة بإصبع واحد!!!*

  1. زهرة بالقاسم يقول:

    أستاذ رامز
    تحليل عقلاني ومستنير
    أحييك على هذا الطرح، الذي يكشف حقيقة هذه الشبكات ومن يعمل من خلالها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *