رواية متعبة!!!
بداية علاقتي بهذه الرواية، كانت من خلال منشور على حائطي الشخصي على الفيسبوك، أعبر فيه عن حالة المراوغة التي أتعرض لها خلال قراءتي لهذه الرواية، التي أتعبتني أو أرهقتني، كون الرواية غير مقسمة إلى فصول أو ما شابه، مما يضرني للعودة بضع صفحات مع كل جلسة قراءة.
وبالرغم من البطء النسبي الذي سارت عليه جلسات القراءة، إلا أني في منشوري الثاني والذي أعلنت فيه انتهائي منها، كنت على درجة عالية من النشوة، والاستمتاع بالقدر الكبير من المعرفة المتحققة خلال رحلتي عبر نص الرواية.
طيف أمبرتو يحوم!!!
عندما تقدمت أكثر في هذه الرواية، وجدتني أستحضر الكاتب الإيطالي “أمبرتو إيكو” (5 يناير 1932 – 19 فبراير 2016م)، بسبب كم المعارف التي يحتشد بها النص، بحيث يتحول النص الروائي إلى نص جامع، نص يقدم للقارئ وجبة معرفية كاملة الدسم، والروائي هو الكيميائي الذي يضبط المقادير، والمهندس الذي يشكل العمل، والباحث الذي يغوص في الكتب والمصادر ليربطنا بالمصادر. بحيث يكون النص الروائي جزء من نص كبير عام.
نعم، العمل الذي بيد يدينا ينتمي لهذه المدرسة، لكنه يبدأ من الحاضر، ويذهب في الزمن، ويعود، في معايشة يومية، تنفتح على أكثر من عالم.
دانتي.. لماذا؟
قبل كل جلسة قراءة لهذه الرواية، كنت أسأل نفسي: لماذا دانتي؟
لماذا حضر “دانتي” كشخص وفكر في هذه الرواية؟ ما الذي يريده الكاتب من هذه الشخصية؟ كونها موجودة في عمل روائي؟ وما الرسالة التي تحملها؟ أو دلالة وجوده؟
لكن مع تقدمي في القراءة، بدأت بطرد كل هذه الأسئلة، فما عدت أفصل بين الصور، ولم يعد “دانتي” موجودا، وكأنه ذاب، كالسكر تجد أثره ولا تراه!
قارئ عليم!!
يقال إن القارئ يكمل العمل! كما يقال إن “أمبرتو إيكو” يبحث من خلال روايته عن قارئ عليم! واع وقادر على إعادة تشكيل الرواية، لأنها عمل يتناص مع الكثير من المعارف ويستمد منها ليبقى ويستمر. وعلى هذا القارئ العليم أن يكون صبوراً ويملك من الأدوات ما يمكنه من البحث والاكتشاف للوصول إلى عمق النص حيث السر!!
وهنا كأن الكاتب لا يريد لنصه أن يكون نصراً عابراً، إنما نصاً مؤثرا وحافراً في ذاكرة القارئ، وقادحاً لزناده لتفجير الصور والمعارف!! وهنا فإن الكاتب “محمد الترهوني” يبحث من خلال روايته (اعترافات دانتي)1 عن قارئ عليم يستطيع القفز بين الكلمات، وتخطي الجمل، واحتمال السرد للوصول إلى فاكهة النص وجنيها، مستمتعا بتعبه!
عوالم .. حكايات
في منتصف الرواية، لم يهمني أن أحدد موقي، أو أفصل بين الحدود، وأحدد العوالم من حولي!! فقط استفدت من نصيحة قديمة، استمتعت إليها ذات مرة؛ لا تعاند التيار، واترك نفسك له!!!
وهذا ما كان!!
استسلمت للنهر الكبير، ولم تعد تهمني الروافد!! فالاستمرار في تتبع الروافد ستشغلني عن النهر الكبير، الذي يجمعها ويوحدها. ولكني أجدني وأنا أقوم بقراءة هذا الرواية نقدياً أو أوضح إنها تقوم على ثلاث مستويات، أو إنها تعمل في ثالث عوالم؛
مستوى/ عالم حاضر-غائب؛ وهو يرصد حكاية البطل والمكان.
مستوى/ عالم حاضر؛ وهو يرصد حكاية الاب وابنه، أو ما يمكننا تسميته رحلة التعارف.
مستوى/ عالم غائب؛ وهو يتتبع سيرة وأطوار “دانتي”.
هذه العوالم الثلاثة اشتغل عليها “الترهوني” بذكاء، وبقصدية؛ بحيث لم تكن مستقلة فينحاز القارئ إلى إحداها، أو مندمجة فيضيع بينها القارئ، إنما حافظ على مسافة متغيرة كدالة في إيقاع النص، ليظل القارئ مشتغلا بها، وفي حالة انبهار مستمرة.
لذا فإن الكاتب كان ينوع في الإيقاع بين هذه العوالم الثلاثة، فمن بداية هادئة في مطعم بيروتي، إلى ارتفاع مفاجئ في إيقاع الأحداث مع مغادرة العائلة لبيتها، وارهاصات دانتي، وهكذا؛ تجري عجلة الحكاية.
تحدي.. تحدي
مع انتهاء الرواية، قفز أمامي سؤال: في هذه الرواية؛ هل يتحدى الكاتب نفسه؟ أم يتحدى القارئ؟
في زمن قل فيه الإقبال على الكتاب، وغياب دوره المؤثر في المجتمع، ومع رواية يرصد فيها الكاتب “محمد الترهوني”، أحداث مهمة ومفصلية عرفتها مدينة بنغازي، يتعمد الكاتب أن يقدم هذا الرصد في قالب معرفي، ومعرفي يتصل بالآخر؛ هو تحد لصبر القارئ على الاستمرار والاستدعاء، وممارسة التحليل والتخييل طوال زمن القراءة، زمن الرواية. “الترهوني”؛ يتحدى نفسه، ويبحث عن قارئ نخبوي، يمكنه بناء النص وإكمال المشاهد والتفاصيل.
اعترافات دانتي.. تدعوكم للقراءة. فهي رواية مختلفة فيما يخص المشهد الروائي الليبي، لو وافقني الكاتب الكبير “يوسف الشريف”، كونها نص معرفي، فيه من تقنيات السرد الكثير، خاصة وإن الرواية الليبية عرفت الكثير تطورا كبيرا بعد 2012م، أو هكذا أظن.
1- محمد عبدالله الترهوني (اعترافات دانتي)، دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، 2020م.
ممتع للغاية ، عمل جيد وشكرا لمشاركة مثل هذه المدونة الجيدة.
نشكر مرورك الكريم