انتهيت قبل فترة، من قراءة متأنية لرواية (حرب الغزالة)*، للروائية “عائشة إبراهيم”. قلت قراءة متأنية، بما تحمل من معاني بطيء القراءة، وأعادتها، والتوقف كثيرا للتأمل والمراجعة، خاصة اللحظات المهمة في الرواية، والانتقالات الدرامية وآلية السرد.
هناك الكثير مما يمكن قوله حول الرواية من الناحية الفنية، وربما أتناولها من هذا الجانب إن وجدت فسحة من الوقت، ولكني أريد التوقف هنا عند بعض الملاحظات التي أراها جديرة بالتوقف.
أولى هذه الملاحظات، اختيار الكاتبة الذكي لموضوع الرواية، مملكة الموهيجاج، بالاعتماد على مجموعة من الشواهد التاريخية لهذه الجماعة التي سكنت محيط جبال أكاكوس. والرواية تستمد قواها من هذا الاختيار الذكي لهذه الحقيقة التاريخية، التي لا توجد مراجع توثق لها، أو تؤرخ لأحداثها إلا ما قدمته الشواهد الأثرية، وما استخلصه وحاول دارس التاريخ القديم استنتاجه من مجموعة المعطيات التي لامسها، وهو ما يعكس الجهد الذي بذلته الكاتبة في هضم ما قدمته الشواهد وما أعاد البحاث كتابته فكريا، والخيال الخصب الذي أعاد رسم هذه الممالك القديمة، وإعادة رسم الشخوص وترتيب الحوارات، والحوادث والأحداث، وإخراج هذه المشاهد الدرامية.
وهنا نتوقف عند مسألة مهمة؛ وهو عدم إسهاب الروائية “عائشة إبراهيم” في تفاصيل المشاهد، واكتفائها بالخطوط العامة أو الشكل العام للمشهد!! وفي ظني مرد ذلك أمرين، الأول؛ خوف الكاتبة من ضياع الرواية في التفاصيل وبالتالي كبر حجمها، والثاني؛ تحفيز خيال القارئ لإكمال الفراغات أو الخطوط، ليكون لكل قارئ صورته الخاصة عن عوالم الرواية مشهديا.
ثانيها، رسمها لملامح هذه الجماعة، أو المملكة، وتحديدها جغرافيا، وديموغرافيا، وتسجيل الحياة الاجتماعية لساكنها. وهذا الرسم وإن كان اجتهادا، إلا أنه ابن ما تركته الأقوام التي سكنت هذه الجبال على جدران الكهوف.
وهنا الكاتبة تحاول، بالاعتماد على الملاحظة الأولى؛ منح الرواية بعدا جغرافيا، بالتالي يمكن للقارئ أن يحدد مكانه على الخارطة بالنسبة لمعالم وأماكن أحداث الرواية، مانحة إياها بعدا واقعيا، وأكثر قربا من المتلقي. وهذا ينقلنا الملاحظة الثالثة.
ثالث الملاحظات، أجادت الكاتبة رسم شخوص الرواية، بما يسمح لنا، كقراء، بالتعرف إليها دون الغوص فيها أكثر، والارتباط بها. فهي لم تذهب كثيرا في التاريخ الشخصي لكل الشخوص، إنما بما يوافق خطة الرواية بحيث يبني القارئ علاقته الخاصة مع كل من شخوص الرواية، وبحيث تكون في أتجاه أبطال الرواية.
رابع هذه الملاحظات، حافظت الكاتب على إيقاع سردي شبه ثابت خلال العمل، ولم تغامر الكاتبة كثيرا في تجريب تقنيات سرد، أو رفع مستواه أكثر. فسارت الرواية على ذات الإيقاع، محافظة على مسافة شبه ثابتة من الحدث، وباستثناء بعض اللحظات التي ارتفع فيها الصدام كان الهدوء طابع الرواية.
مع إن الغزالة كرمز، يحمل أكثر من دلالة، فإن حضورها في الرواية كان مقصوداً لذاتها، كيان بالرغم من ضعفه ووداعته، يمكنه أن يكون سبباً في إثارة الكثير من الصدامات، أو التأثير في الآخرين وامتلاكهم، وتسخيرهم.
الغزالة هنا ليست الكائن الذي عرفناه في الشعر وفي الأمثال والحكايات، ولا ما ذكرته الحكايات والأساطير الشعبية، إنه أقرب إلى الفتنة!! لنكتشف في نهاية الرواية، أن الحرب التي حملها عنوان الرواية هي حرب نفسية، تنازعت فيها الرغبات داخل “ميكارت”، في حالة هي أقرب لجهاد النفس، ومجاهدتها مخافة السقوط.
في المجمل الرواية متن يستحق القراءة، بما تحوي من متعة وتشويق، واشتغال تاريخي يمثل جزء مهما من تاريخ ليبيا القديم، وما صاحب هذا التاريخ من ظهور واندثار لحضارات لم يبق منها غير رسومات على جدران الكهوف التي سكنوها، وما حفرته الأزاميل على الحواف الصخرية.
________________________________
*عائشة إبراهيم (حرب الغزالة)، منشورات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، طرابلس 2019.
نشرت ملحق الصباح الثقافي.. الأحد : 23 فبراير 2020 / العدد : 229