1
الصياد والطريدة
تعرف العرب الشعر من مبدأ النقيض. فالنثر ضد الشعر. والعرب عدّت الشعر الفن الأكثر رفعة والصورة لقوة البلاغة، وإن كان السبق للنثر كفنٍ يعتمد اللغة دون أيٍ من أشكال الغناء، وهنا نعني القالب الموسيقي للقصيدة العربية من أبحرٍ، كبناء عام للنص، والوحدات النغمية المكونة (التفعيلات)، والتي تحول إليها النص الشعري العربي في تجربة الشعر الحر (التفعيلة)، وهو مبدأ التخلي عن الوحدة الأصل (الأكبر) إلى الوحدة الفرع (الأصغر).
مع النثر الأمر مختلف، فالنص الشعري سواء التقليدي أو الحر وحتى الحديث ينبني أساساً على اللغة، واللغة في ذاتها نثر، وقصيدة النثر تخلت عن القالب، واختارت أن تحفظ نوعها الأول.
في زعمي، دون الخوض في مبدأ النقيض، تكمن قوة النثر في الأفق المفتوح أمامه، والقدرة على مواجهة الفراغ بتكوين وحدةٍ أو بناء يمكنه الانتصاب. بالتالي فإن قصيدة النثر نص يعتمد على الشاعر وقدرته على المناورة في اقتناص طريدته (الشعر) وما يبذله من حيل (النثر) لأجلها، بما يمكنه من أدوات (اللغة)، فالشاعر يصبغ النص بصبغته (أسلوبه)، ويحمَّله الكثير من صفاته، في بناء منظومته الإبداعية الخاصة المنتجة، والتجارب المميزة لقصيدة النثر تثبت هذه الفرضية، وتطيح بما يردد من كون قصيدة النثر بلا هوية أو روح، وأنها نصوص تتشابه ولا يمكن تمييزها.
وبمقدار ما يؤثر الشاعر في النص، فإن النص يؤثر فيه، فهي لعبة بين طرفين يؤثر كل منهما في نظيره. ويمكننا أن نكتشف هذا التأثير في التجربة الشعرية النسوية -دون أي نية للتجنيس-، ففي قصيدة النثر تخلت الشاعرة عن صورة شهرزاد الحكّائة، ملكة اللغة والوقت، إلى الصورة البارقة، والمقاطع القصيرة، وكأن النثر لا يحتاج المحسِّنات إلا ما يحدد ملامحه العامة1، وكان الشاعرة –هنا- تعمل على تركيز/تكثيف القول (المعنى) في وحدة بنائية قصيرة، تطلقها وترحل. هذا التفاعل المتبادل بين الشاعر (الصياد) والنص (الطريدة) يوجد حالة من الكر والفر، هي في شكلها الأليف حالة من التناغم أو التوافق (The Harmony)، تمنح النص بعده الإيقاعي الخاص، وكأنها رقصة، المعتمد على إدارة الشاعر للعبة (مشاركة الصياد والطريدة)، والتحكم في لحظات توترها وتدفقها، والتجربة تعين الشاعر (الصياد) على تطوير أدواته وأساليبه في مراوغة الطريدة (النص) للوصول. وهذا ما يحول اللعبة من الخطوات الثابتة إلى حرية الحركة في الملعب، فلا يعود النص ملتزماً بالخطط المسبقة، فالملعب (أرض الصيد) أفق مفتوح.
2
هندسة النص
ظلَّ الشعر العربي محتفظاً بشكله الثابت، العمودي البناء، حتى ظهور الشعر الحر (التفعيلة)، فتحرر من الشكل الثابت الأشبه بالمستطيل (المقولب)، الذي يجعل من النصوص متشابهة ككتل محددة الجوانب، إلى الشكل الحر، الذي يعتمد بالأساس، في الشعر الحر، على توزيع التفعيلة وتكرارها، وفي قصيدة النثر على الجملة والمفردة.
هنا نتحدث عن هندسة النص، أو الجانب التشكيلي للنص الشعري، وقدرته على إنتاج دلالة داعمة، ونقصد هنا دلالة تدعم دلالة النص بإنتاج دلالة تشكيلية أو بنائية موازية.
النص الحديث يعتمد على مبدأ التفقير (من الفقرة) والتعتيب (من العتبة)، فهو بناء تسلسلي لا نمطي، يعتمد على السطر الشعري (مقابلاً للبيت الشعري أو مجموعة التفعيلات في السطر)، والتنقيط، والمسافات، وتنضيد النص بالنسبة لهوامش الصفحة الجانبية ووسطها، وأحياناً توزيع السطر أو المفردة حروفاً على السطور. الهندسة هنا لغة أخرى داخل لغة النص، أو إبداعٍ داخل الإبداع، هدفها هندسة خاصة بالنص، تستلزم من القارئ بجانب النص قراءة المسار الهندسي له، وإدراك الدلالات التي يحملها.
هندسة النص تعتمد بشكل أساسي على الشاعر، فلا توجد خطة مسبقة أو نمطٍ بنائي نسبق، إنما هو الشاعر من يحدد طريقة توزيع نصه على الأسطر اعتماداً على طريقة أدائه للنص2، أو طبيعة القراءة المرتجاة، أو ما يعوِّل عليه أو يبتغيه في النص، وما يتقصَّده.
فالاعتماد على أحد هوامش الصفحة الجانبية –مثلاً-، يمنح النص شكلاً عامتً يرصد توترات النص، بالتالي يتحول حدهُ الخارجي (البعيد على الهامش) إلى رسم تخطيطي يرصد تفاعلات الشاعر، من ارتفاع وهبوط واستواء، عاكساً مناخ اللعبة. بينما تنضيد النص بالاعتماد على توزيعه في وسط الصفحة، يعكس حالة تدفق النص وانسراحه، وهذا البناء الشجري يرصد تراتبية النص ومرتكزاته، كونه حالة اتزان، بعكس التنضيد الجانبي الذي يعتمد في النص على الهامش. وبالمقارنة مع القصيدة العمودية، فهي تحقق حالة اتزان تامة، أي غير قابلة للحركة (جامدة)
3
التــجـرد
يقول ابن رشيق: (الشعر يقوم -بعد النية- من أربعة أشياء و هي: اللفظ، والمعنى، والوزن، والقافية.وهذا هو الشعر).
واعتماداً على قول “ابن رشيق” فإن قصيدة النثر تخلت عن الوزن والقافية، أو تجردت من القالب الإيقاعي، واحتفظت باللغة (اللفظ) والمعنى. لنقُل إنها تخلت عن العنصر الجمالي أو الجانب الفني الظاهر (اللباس)، للاعتماد على المكون الأساسي لنص الإبداعي (جسد النص)، وبالتالي محاولة الاكتفاء بهما (اللغة والمعنى) لإعادة تشكيل النص فنياً وجمالياً، فالنص هنا (أو الشاعر) يتخلى عن ديناميكية الوزن (الحركة والسكون) الظاهرية، وانتظامه (في أبحُر)، وهي ديناميكية منضبطة (موقعة/ثابتة)، إلى ديناميكية النثر أو المفردة (الكلمة) وعلاقتها بالمفردة التي تليها، وهي ديناميكية غير ثابتة، وهذا الشكل الحركي يعتمد على الشاعر، مما يعني أن لكل شاعر نسيقتهُ التي يعمل عليها، وقد تكون أنساقاً.
الأمر الذي وجه الشاعر أكثر إلى الاهتمام ببناء الجملة الشعرية من خلال ما تقدمة اللغة من بديع وبلاغة، فتحول الهم أكثر لداخل النص والاشتغال على المعنى، ليكون النص مجموعة اشتغالات تنتظم في مكونٍ واحد، وكأن النص لوحة فسيفساء، تعكس في جملتها صورة فنية رائعة، وفي مكوناتها حرفة الصانع (الشاعر) في تشكيل هذه الوحدات الصغيرة.
4
الشاعر = النص
قصيدة النثر جنس إبداعي يعتمد على الشاعر. وبكل أريحية نقول إن قصيدة النثر نص الشاعر. فهي نص يعتمد على الشاعر وتجربته وما يمكن لهذه التجربة من حشد لأدواتها، فالنص هنا يلتصق بالشاعر –أكثر-، وهذا ما يوجد الفجوة بينه والتلقي، ما لم يحاول المتلقي موازاة مستوى النص تلقياً، أو الدخول للنص وتفكيكه. بالتالي هي نص منغلق غير مفتوح، منغلق من جهة اتصاله بالشاعر، ومن جهة، اكتفاء النص بذاته، أي ارتباط أجزائه. وهنا نجاح النص يعتمد على ما يمكن للنص –من خلال تجربة الشاعر- على إيجاد شحنة إدهاش تكون قادرة على صدم المتلقي، وفي رأيي إن الإدهاش هو الحالة الشعرية المقصودة لقصيدة النثر، في قدرتها على مفاجأة المتلقي –ومن قبله الشاعر- في مراوغة الطريدة للصياد، وما يمكن حشده للنص3. الأمر الذي يشكل تحدياً حقيقاً لكتابة نص شعري مميز، وهذا ما نجده في تجارب قصيدة النثر المميزة، والتي تعكس ما يمكن للتجربة من قدرة على المراوغة والإدهاش.
_____________________
1- هذه الملاحظة كنت قد أوردتها في أحد القراءات السابقة، كون الشاعرات مع قصيدة النثر، اعتمدن بشكل ملحوظ بناء النصوص الشعرية القصيرة.
2- نقصد هنا، الأسلوب الذي يتبعه الشاعر في تقسيم نَفَسَهُ عند القراءة.
3- نعني هنا، ما يمكن للشاعر اعتماداً على تجربتهِ الشعرية والحياتية والمعرفية، وتوظيف هذه العناصر في خدمة النص.
نشرت بصحيفة المجلس الثقافي_ العدد 2_ 6/12/2010