تمنت أمه:
– يوفقك الله، لتخدم في مكتب مدير.
– لدي ابن عم، حالفه الحظ، وخدم في مكتب مدير، كل يوم يفيق على منشفة الفراش، تمسح وجهه، وظهره وأذرعه، حتى آخر أرجله.. ليبدأ خدمته الثقيلة، فالمدير (ما شاء الله) من أصحاب الكروش الواسعة، يرمي بثقله عليه، يدس تحته حذاءه، ولا يكاد، حتى يبدأ دورانه، يمين شمال/ يمين شمال/ يمين شمال.. مسكين ابن عمي هذا، لكنه منجم حكايات، يحفظ الكثير ويعرف الأكثر.
– الخدمة في مكتب مدير.. عـز!!.
– ربما، لكن نحن لا حول لنا ولا قوة، في النهاية لا مكان لنا حتى في الاستيداع.. ابن عمي هذا انتهى به الحال، في مكتب الغفارة على الباب، المدير الجديد لم يحتمل رؤيته، فقرر من فوره إخراجه عن خدمته.. مسكين ابن عمي، تحمل الكثير، من ثقل المدير إلى ثقل الغفير.
أبوه طيب، ولا يبحث في هذه الدنيا عن مكان، ظل طوال حياته مكتفياً بمكانه تحت الشمس، قبالة النافورة، متذكراً كيف يغسله رذاذها، ويقفز عليه الأولاد، عندما كرمته دائرة الحدائق منحوه لوناً اخضراً وأطرافاً جديدة، مزخرفة، وعالجوا قدمه اليسرى.. مرت السنوات، كان يقول:
– السماء تظل جميله، والحياة تحتها نعمة، حتى فصل الشتاء، فيأكل فيك البرد جزءاً، والمطر جزءاً.. أما الصيف فهو في بلادنا جهنم، الشمس حارقة، والشجرة بجانبي فقدت أوراقها مبكراً.. ولا أريد تذكر الخريف برماله التي تسفح وجهي وتقشره..، خمسة عشر خريفاً والرمل والريح تسفح وتقشر دون يدٍ تعيد اللون إلى أوله.
– أبي، انتهى في مأساة، تحول إلى (رافدة)، في حركة التجديدات اخترقته خمسة مسامير.. كان بديله جاهزاً، ومن طراز ينتمي لعائلة الصخر، باردٌ، وجامد.
– أمي لم تبتسم لها الحياة كثيراً.. بعد خدمتها الطويلة في الصالون الكبير، تحولت لخدمة السيد في مكتبه الخاص.. كانت تضطر لحمل الكتب والأوراق طوال اليوم والليل، وفي بعض الأحيان كان عليها تحمل رائحة قميصه الملقى على وجهها.. مرة حولها سلماً، ومرة فرساً، وأخرى متكأ لقدميه.. في يوم أغضبته السيدة، فدخل غاضباً كانت أمي تحت الأوراق، دفعها، لم تتمالك نفسها فوقعت، ضربها، فكان أن كسرت ساقها اليمنى.. وانتهى بها الحال في البدرون.. وآخر مرة كانت غادرت في شاحنة بائع للأشياء المستعملة.. أخمن أنها ربما تجلس في ركن بأحد الأحياء الفقيرة، وإن ابتسم لها الحظ فربما تقابلنا في أحد هذه العمارات.
– وأنت..؟!!
– وجدت نفسي في قاعة للانتظار، مستشفىً كبير، ومرضى أكبر.. كنت فتياً تحملت الصغار يتقافزون فوقي، يصعدون/ينزلون، تزاحم علي المرضى، زُحزحت، تحولت سريراً.. حفظت الآهات، وشخصت الأمراض، لم أعالج، فنحن نظل مجرد خدم في هذه القاعة، حتى الصباح عندما يأتي عمال النظافة فيرموننا خارجاً بقوة، ومن بعد يعدوننا دون ترتيب.. وجدت نفسي فجأة بدون ذراع، وفجأة بدأت أتعب من الوقوف فاتكأت على الحائط، حتى أقصيت إلى ركن في الغرفة، تحولت معه إلى حامل لسلة النفايات.. واليوم نزاحم بعضنا في هذه السيارة مكدسون.
– وما الذي سيحدث؟؟!!
– أيْ.. أي.. كنت أسمع أن الطرق مليئةٌ بالحفر، والآن تأكدت.. الحبل يضغط على ظهري، بقوة.
– هل سيكون مكاننا الجديد، أفضل؟
– أفضل/أقل، نحن مكدسون في هذه السيارة منذ ساعة،….
– آآآآآآآه.. أي
– هيه..
– آي.. أي.. أي..
– كيف الحال؟.. وصلت على الخير.
– أدر السيارة قبالة المخزن، وتعال لكأسٍ من الشاي.
– هيه.. تكسرت عظامي!!
– آآآه، لقد فقدت رجلي الثانية!!
تمنت أمه، خدمته في مكتب مدير.. انتهى والده، رفداً بخمسة مسامير.. بقي يستمع لآهات المرضى وشكواهم.
في الأسبوع الأول سقط عن الكوم، وتدحرج.. في الشهر الثاني، في حركة التغيريات تحول قرب الباب.
البرد قارص، والحارس يقطع الليل بالغناء، يقترب من المخزن، يجره إلى حجرته، يحس بعض الدفء في النار المشتعلة.
– هيه، كيف حالك؟
– تمام، أدركت وصف أبي للشتاء بالقاسي.. منذ متى وأنت هنا؟
– اليوم صباحاً.
الحارس يعود، والنار تجاري نسمةً باردة مرت.. الحارس يمد يده، يتناول قدمه ويلقي بها للنار، قدمه الثانية.. ثم…