قراءة في شعرية الفضاء المغلق

كتاب الدكتورة فاطمة الطيب قزيمة، المعنون (شعرية الفضاء المغلق - شعر السجون في ليبيا 1960 - 2011م)1، الصادر عن مكتبة الكون للعام 2022م.
كتاب الدكتورة فاطمة الطيب قزيمة، المعنون (شعرية الفضاء المغلق – شعر السجون في ليبيا 1960 – 2011م)1، الصادر عن مكتبة الكون للعام 2022م.

تعد تجربة السجن من أصعب التجارب على الإنسان، كونه جبل على الحرية، وما كان السجن إلا لكبح هذه الحرية كعقاب! لما له من تأثير كبير على الإنسان/السجين، خاصة الجانب النفسي، الذي ينعكس في السلوك والحياة والعلاقة بالآخرين.

وبالرغم من وجود السجن كواقع، كأداة للعقاب المبرر وغير المبرر، إلا إن أثره كتجربة تختلف من إن إنسان إلى أخر، إي يقرر علماء النفس والاجتماع، إن هذا الأثر يعتمد على مجموعة كبيرة من المتغيرات، التي ترتبط بالفرد بأكثر من شكل وعلى أكثر من مستوى، من التربية إلى الثقافة، إلى المجتمع، إلى التجربة الشخصية، وغيرها!

السؤال هنا: ماذا لو كان السجين مبدعاً؟ 

بكل تأكيد سيكون الأمر مختلفاً من كون السجين إنساناً اعتيادياً، فالمبدع يتميز بقدرته على تحويل هذا الأثر إلى إبداع، سواء كان هذا الإبداع كتابة أم تشكيلاً! وكمحصلة سيكون الإنتاج الإبداعي للسجين/المبدع في هذه الفترة، صورة لارتدادات هذا الأثر وتداعياته في الذات، ومفاتيح لعوالم ربما لم تكن خارج هذه المحنة!

وفي محاولة للكشف عن هذا الإبداع، جاء كتاب الدكتورة فاطمة الطيب قزيمة، المعنون (شعرية الفضاء المغلق – شعر السجون في ليبيا 1960 – 2011م)1، الصادر عن مكتبة الكون للعام 2022م. الذي في أصله بحثها المقدم لنيل درجة الدكتوراه، كلية اللغات – قسم اللغة العربية للعام 2017 – 2018م. هذه الدراسة إضافة مهمة للبحوث الأكاديمية حول الأدب الليبي، خاصة في خروجها في كتاب يعد رافداً للنقد الأدبي في تجربة الإبداع الليبي، وبخاصة الشعر الليبي.

في هذا الكتاب تأخذنا الباحثة في رحلة عبر تجارب مجموعة من الشعراء، ممن عاشوا محنة السجن، بسبب دورهم الثقافي والتحرري المناهض للظلم، الذي يمنح نصوصهم الشعرية بعداً فكرياً يضافة للتجربة. الباحثة اختارت 11 شاعراً ليبيا يمثلون تنوع التجربة الشعرية الليبية؛ التقليدية والحديثة، ومناطق ليبيا المختلفة، والشعراء هم بترتيب الباحثة:

عمرو خليفة النامي، عبدالرحمن محمد الشرع، السنوسي حبيب الهوني، محمد فرحات الشلطامي، جمعة أحمد عتيقة، علي محمد الرحيبي، أحمد فتحي بللو، عبدالحميد بطاو، راشد الزبير السنوسي، إدريس محمد الطيب الأمين، محمد الفقيه صالح.

في هذا الدراسة/البحث استطاعت الباحثة أن تنفذ إلى التجربة الشعرية لعينة الدراسة، والوقوف على ما يميز هذه التجربة، وأثر تجربة السجن في نصوصهم على مستوى الفكر كاشتغال والإيقاع كبناء، وجماليات هذه التجربة الشعري، وبالرغم من حجم الكتاب الكبير نسبياً، حوالي 400 صفحة من القطع المتوسط، إلا أن متعة القراءة حاضرة خلال التنقل بين الصفحات، وهي تنتقل بنا بين العرض والتنظير والشواهد الشعرية. وسيلاحظ القارئ عناية الباحثة بمادة الكتابة، واجتهادها في تقديم دراسة محيطة بموضوعها.

يبدأ الكتاب/الدراسة بفصل تمهيدي، وهو فصل استعرضت فيه الباحث مجموعة من المفاهيم الأدبية والثقافية المهمة، والمفيدة للدخول للكتاب، حيث بدأت بتجربة السجن في التراث الشعري العربي، ثم إلى تعريف بشعراء الدراسة، لينتوقف في المبحث الثاني مع العلاقة بين المثقف والسلطة، وهو مبحث مهم لفهم هذه العلاقة وبالتوازي دور المثقف المجتمعي.

في المبحث الثالث من هذا الفصل، تناولت الباحثة الشعرية عند العرب، في محاولة لفهم ماهية الشعر كجنس إبداعي، في المبحث الرابع نتوقف مع مفهوم الفضاء المغلق، وصولاً إلى فضاء السجن والعتمة.

الفصل الأول للكتاب جاء معنونا بـ(شعرية الثنائيات الضدية)، حيث ركزت الباحثة من خلال مباحث هذا الفصل على ثلاث ثنائيات مهمة، وهي: ثنائية الأنا والآخر، ثنائية الحياة والموت، وثنائية النور والعتمة. وهي الثنائيات التي حكمت تجربة الشعراء، وشكلت نصوصهم الشعرية.

في هذا الفصل ولجت إلى عمق الذات، ذوات الشعراء وهم محكمون داخل الفضاء المغلق، فقدمت صورة عميق وكاشفة.

في الفصل الثاني تنتقل بنا الباحثة إلى بنية النص الإيقاعية، من خلال (البنية الإيقاعية في قصائد السجن لليبيين)، وهي في هذا الفصل تعمل على تحليل بنى النصوص الشعرية، بالاعتماد على الإيقاع كونه البنية المشتركة بينها والمكونة لهياكل قصائد الشعراء. وفي المبحث الثاني تنفذ الباحثة إلى الإيقاع الداخلي للنصوص الشعرية، من خلال الاشتغال البلاغي للشعراء,

تحت عنوان (تجليات التناص عند شعراء السجن الليبيين)، جاء الفصل الثالث والأخير في الكتاب، والذي تناول التناصر في تجربة شعراء السجن الليبيين، من خلال أربعة مباحث مفصلة.

تناول المبحث الأول التناص الديني، من خلال التناص مع القرآن الكريم، الحديث الشريف، مع الأديان الأخرى. المبحث الثاني اختص بالتناص التاريخي، بحيث تم تغطية ثلاث مستويات هي: استدعاء الشخصيات التاريخية، التناص مع الأمكنة التاريخية، التناص مع الأحداث التاريخية. أختص المبحث الثالث بالتناص مع الأسطورة والتراث الشعبي، ومن الموضوعات التي تم الاشتغال عليها: التناص مع الأسطورة، التناص مع التراث الشعبي. المبحث الرابع والأخير جاء لدراسة التناص مع الأدب العربي والعالمي، والذي ركز على: التناص مع الأدب العربي، التناص مع الامثال العربية، التناص مع الأدب الغربي.

لنخلص في نهاية الكتاب للخاتمة، التي استعرضت فيها الباحثة الدكتورة فاطمة الطيب قزيمة، مجموعة النتائج التي استخلصتها من خلال هذه الدراسة، وهي خلاصة مميزة وفيها الكثير من الفائدة للمهتمين والبحاث.

الكتاب يكشف عن حجم الجهد الكبير الذي قدمته الباحث خلال إعدادها له، من خلال تجميع المادة التي لم يكن من السهل توفيرها بشكل كامل، كذلك التواصل مع الشعراء وهم من مختلف المدن الليبية، كما إن موضوع البحث يناقش مسألة مهمة وعلى درجة من الصعوبة التي تحتاج من الباحث إلى الصبر والعمل بدأب.

ختاماً، من الواجب شكر مكتبة الكون على هذا الاختيار الموفق، وسحب هذه الدراسة من رف الجامعة ونشرها في كتاب، وهو ما نتمناه من بقية دور النشر الليبية أن تخصص جزء من منشوراتها للأعمال البحثية ذات العلاقة بالإبداع، في غياب دور حقيقي للنقد في تجربتنا الإبداعية الليبية.


1- فاطمة الطيب قزيمة (شعرية الفضاء المغلق – شعر السجون في ليبيا 1960 – 2011م)، مكتبة الكون، طرابلس – القاهرة، 2022م.

قراءة في شعرية الفضاء المغلق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *