الشـاعرُ والجـبل!!

الجبل (الصورة عن الشبكة)
الجبل (الصورة عن الشبكة)

الشاعر المجهول

خلال أول تجاربي مع الـ(Clubhouse)، من خلال جلسة حول الأدب الليبي، تطرق فيها الحديث عن الشعر، ذكر السيد “علي يونس” اسم شاعر لم يطرق سمعي من قبل، بل وألقى مقاطع من إحدى قصائده، وشدتني القصيدة إليها، ومن فوري قمت بتسجيل اسم الشاعر، وعنوان القصيدة، على أمل أن تتاح لي الفرصة للبحث عنه.

الشاعر الفطيسي

بعد انتهاء الحلقة، بدأت رحلة البحث عن هذا الشاعر فيما يتوفر لدي من مراجع بمكتبتي، فلم أجد له ذكرا فيها، ما عدا (دليل المؤلفين العرب الليبيين)1، وما ذكر عنه في الصفحة 423، في الترجمة 295؛ حيث جاء فيها: (محمد بن محمد بن الفطيسي (295)

ولد ببلدة زليطن في أوائل المائة الثالثة بعد الألف.

بيت آل الفطيسي بيت علم من قديم، وأصلهم من الأندلس، تلقى علومه عن آل بيته، ثم رحل إلى مدرسة تاجورة، وأخذ عن علماء بيت النعاس، وشارك في جميع العلوم.

عندما عاد إلى زليطن تولى التدرس في زاوية آل الفطيسي.

المؤلفات:

الضوء المنير المقتبس في مذهب الإمام مالك بن أنس، تأليف محمد محمد الفطيسي، تحقيق الطاهر أحمد الزاوي، القاهرة، دار الاتحاد العربي للطباعة، 1388ه-1968م. 140 ص.

منظومة في التوحيد.

منظومة في النحو.)

هذا ما ورد عنها في الدليل، الذي يشير إلى المصدر؛ كتاب أعلام ليبيا2 – للشيخ الطاهر الزاوي (رحمه الله)ـ وعندما عدت إليه وجدت ترجمة الشاعر على الصفحات 349 : 351. الترجمة الثالثة للشاعر وجدتها على الشبكة، على موقع مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية3.

الملاحظ إن هذه التراجم الثلاثة للشاعر لم تعرض تاريخ وفاته، بينما يذكر الشيخ “الزاوي” في ترجمته أنه ولد في 1200ه، أي 1785م تقريباً.

قصيدة ديسان

يبلغ عدد أبيات هذه القصيدة 22 بيتاً، وقد أوردها الزاوي في كتابه (أعلام ليبيا) مشفوعة بتعليقه التالي: (وهي قصيدة كثيرة التحريف، أصلحت منها بعض الأبيات وحذفت غير مستقيم المعنى ولم يمكن إصلاحه)4. وهو مات يجعلنا نقول بانتشار القصيدة وكثرة روايتها، الأمر الذي أحدث فيها بعض الخلل على مستوى ترتيب ونظم الأبيات، ولما لا إضافة بعض الأبيات لها.

يقول الشاعر “محمد الفطيسي” في مطلع قصيدته (ديسان):

فَنَوْا وتفنى وتفنى بعدكم أممٌ / تأتي وتبقى على ما كان ديسانُ

انظر يمينًا فذاك الطّودُ ديسانُ / وانظر شمالاً فهل في الرّبع سكّان؟

هذي منازلُ من نهوى وأين همُ؟ / لم يبق ممّنْ هويتُ اليوم إنسان

و(ديسان) هو جبل بمدينة (زليتن)، كانت تسكن عنده أحد العائلات التي ارتبطت بعلاقات أسرية وأسرة الشاعر، وفي هذا يورد الشيخ “الطاهر الزاوي” في كتابه (أعلام ليبيا) مناسبة هذه القصيدة: (…، أن القطر الطرابلسي أطيب بوباء سنة 1252 هـ. وقد قضى هذا الوباء على أسرة عبدالصادق، ولم يبقى منهم إلا رجل واحد، ولما رجع الأستاذ محمد الفطيسي من مدرسة تاجورة التي كان يتلقى بها العلم، اهتزت مشاعره لهذه الكارثة التي أصابت أسرة عبدالصادق فرثاها بهذه القصيدة)5.

من هذه الثبت نجد أن القصيدة كتبت في العام 1836م تقريباً، وفيها يقف الشاعر أمام جبل (ديسان) يسأله عن القوم الذين كانوا يسكنونه، فيجبه الجبل بالصمت، في إشارة إلى فنائهم:

ديسانُ أدرَى فسلْه عن منازلِكم / فهم لهُ عند جمع الشّمل جيران

كانت به فتياتٌ كالظّبا وبه / أمثالُهنّ من الأتراب فتيان

وكان من حولِه خِصبٌ نزلن بهِ / كأنّه عند من يهواهُ بستان

والقارئ لهذه القصيدة، وأظنه الأثر الوحيد له، سيجدها قصيدة مرهفة الحس، تعكس روحاً جياشة لشاعر تفاعل مع الحدث بتلقائية وعفوية، وهو يستنطق هذا الجبل ويعيد استذكار الأوقات التي آنس فيها شاكنيه، ويتوقف عند بعض التفاصيل، بل ويتوقف عند أحد ساكنيه وهي “سالمة”:

دِيسانُ ما جبلٌ عندي يماثله / رَبعُ الأحبِّة والإخوانِ ديسان

كانَتْ بهِ من بناتِ الحيِّ طائفةٌ / تُماثل النّاس خَلقًا وهْيَ غزلان

فيهنّ «سالمةُ» الطبع التي تركت / خليلَها الصبَّ يَهذي وهْو يقظان

صانت شمائلها عن كل منقصةٍ / لها العفافُ وحُسْنُ الخُلْقِ عنوان

ولا يخفى على القارئ البيت الثالث من هذه المقتطف، جمالية استخدام اسم (سالمة) كاسم وصفة لخلق الفتاة المعنية، وهو ما يعود الشاعر لتفصيله في البيت التالي. الجميل في هذا النص الحوارية التي صاغها الشاعر بينه وبين الجبل (ديسان)، وهو تحول الجبل إلى واعظ، فكيف لا وهو الشاهد على الكثير ممن عاشوا حوله ورحلوا وهو باق شاهداً عليهم.

اسمعْ جوابَكَ من ديسانَ موعظةً / وعِظْ بها من له عقلٌ ووجدان

فنوا وتفنى وتفنى بعدكم أممٌ / تأتي ويبقى على ما كان ديسان

اليتيمة

أشرت، أن هذه القصيدة هي الأثر الشعري الوحيد -في ظني- للعالم “محمد بن محمد الفطيسي”، وأعتقد أنه لهذه السبب لم يأتي ذكره في أي من المراجع كشاعر، كونه لم يترك آثاراً شعرية غير هذه القصيدة، والتي أوردها الشيخ “الطاهر الزاوي” في كتابه (أعلام ليبيا)، وهو العالم في الفقه واللغة، وربما كان الشعر أحد مواهبه التي لم يعول عليها في التعبير بينما وجهها للنظم في مجال العلوم، أو هكذا أظن.

وهكذا تكون (ديسان) يتيمة العالم “محمد بن محمد الفطيسي”، أجدني أستحضرت عند قراءتها قصيدة “أبو البقاء الرندي”:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ / فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ / مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ / وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

لا سبب واضح لدي لهذا الربط، ربما الموضوع، ربما القافية، أو الجرس الموسيقي للقصيدة، المهم إن (ديسان) من النماذج المميزة والمبكرة في الشعر الليبي.


هوامش:

1- دليل المؤلفين العرب الليبيين – أمانة الإعلام والثقافة – طرابلس 1977م.

2- الطاهر الزاوي (أعلام ليبيا) دار المدار الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة 2004م.

3- https://www.almoajam.org

4- المرجع 2: ص 351.

5- المرجع 2: ص 350.

الشـاعرُ والجـبل!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *