الناقد مكان شاغر والثقافة الليبية هي ثقافة التلميذ

حوار مع الشاعر رامز النويصري

النثر هو الصورة الأكثر قدرة على التطور والمواكبة

وحدها الذائقة من تفرض على الإبداع صوره الجديدة

اليومي يخرج النص من دائرة النمطية

 

أجرى الحوار: علي الربيعي

 

 

كيف تقرأ هضم الثقافة الليبية لأفكار ونتاج الآخر دون أدنى معارضة لها كما حدث مع قصيدة النثر ومن قبلها التفعيلة عند ظهورها في عشرية الستينيات من القرن المنصرم ؟

– بداية، قد أكون كتبت في هذا الموضوع كثيراً وعلقت عليه في أكثر من اشتغال. لكن تظل هذه الحقيقة، مفسرة للكثير من إشكالات الثقافة الليبية والإبداع الليبي. فالثقافة الليبية هي ثقافة التلميذ، والتلميذ عادة ما يُبهر بأستاذة ويقلده ويأخذ منه، وحتى في تفوق التلميذ يظل للأستاذ مكانة لا يمكن المساس بها أو مغالطتها، والتلميذ لا يكف ينهل من أستاذه ويخلص له. وهكذا نشأت الثقافة الليبية، تربت على الشرق، خاصة وإن ليبيا تعرضت لظرف تاريخي أثر فيها وحال دون استمرارها، فتوالي الحضارات في أشكالها الاستعمارية وصولاً إلى الاستعمار الإيطالي فرض حالة من الفراغ الثقافي، فنظر هذا المجتمع من حوله فلم يجد من ملجأ إلا النظر خارج دائرته.

هذا الوضع لم يجعل من مجالٍ للنظر فيما يقدم، أمام الجوع الثقافي الذي قابله. مجتمع يبحث عن فرصة تمنحه أبجديات التعلم وإثبات الذات ويجدها قريبا منه، فينهل وينهل فقط. هذا الفارق، هو ما يمثله قبول الثقافة الليبية والإبداع الليبي للآخر –كما أشرت في سؤالك، وأقول الشرق-، وهضم هذه التجارب دون إبداء أي ردة فعل –معارضة، كما أشرت-، حد ما يثار من نقاشات، ومن بعد إعادة تصدير هذه النقاشات. بالتالي ظل الفارق موجوداً وواضحاً، لكني أزعم انه بدخولنا والعالم عصر المعلوماتية، فإن الهوة وإن تقلصت تظل تشي بتبعيتنا، طالما لم يتحقق في هذه الثقافة التراكم القادر على ردمها والارتفاع أمتاراً.

 

 

لا نراك تعول على سيمياء النقد ؟ ما ذخيرتك في الاشتغال ؟

لا أريد أن أصف ما أكتبه (نقداً). كون العمل النقدي عمل علمي يحتاج ممن يمتهنه الصبر والأناة على البحث والنظر بعين الشمول. أما ما أكتبه فمكنك تسميته بالـ(قراءات) كوني لا أعتمد منهجاً نقدياً أو مدرسة، إنما ما أقوم على ملاحظته في النص وما يتجمع حوله من خواطر حال قراءتي له. وحتى كتاباتي المخصصة لبعض الموضوعات كـ: قصيدة النثر والتجربة الشعرية في ليبيا والنقدية، فهي خلاصة لما اجتمع عندي من ملاحظات قراءة داوت عليها ومازلت، لكن لا يمكنها أن ترقى للعمل النقدي المتكامل، لذا قلت في بداية إجابتي إن النقد عمل يحتاج لمن يمتهنه، أي أن يكون مهنة أو عمل مستقل دون أن يكون الإبداع أحد هوامشه، وهذا ما يغيب عن تجربتنا الإبداعية في ليبيا، كون من مارس النقد يمارسون الإبداع، محاولين في هذه الأعمال سد ثغرة لا أظن من السهل سدها في جدار ثقافتنا الليبية.

 

كيف يمكننا فهم مقاربتك لتجارب جمعتها عشرية النتاج وحسب، ومن بينها عشرية التسعينيات التي تنتمي إليها برغم وجود تباين عميق تشي به فردية تلك التجارب منهجا وأسلوبا مهما بدا من تشابه على السطح؟ سيما وأنك وسمتها بأنها تجارب تملك أدوات جيل تسعيني؟ حدثنا عن تقاطع هذه الأدوات؟ وكيف يمكننا فهم هذه المقاربة في ظل المشارب والتأثيرات المتباينة لكل تجربة؟

لم أكن أول من جمع التجارب إلى عشريات، بل سبقني إليها أكثر من كاتب، وهذه العشريات وإن تم اعتمادها كصورة لتقسيم التجربة الإبداعية في ليبيا كما –تقليداً للشرق-، فما قمت به هو إعادة تصدير هذا التقسيم بصورة مختلفة، حيث حاولت البحث فيما احتوته العشرية من تجربة، بالتالي وجهت نظري أكثر للنص أو التجربة في صورتها الإبداعية.

وعشرية التسعينات تندرج تحت ذات السياق، لكن ما يختلف هو أني تتبعت هذه العشرية في نصوصها، بحيث حاولت قراءة نصوص مجموعة الشعراء الشباب من داخل التجربة، كوني أحد أفرادها وقريبا جداً من أفكار وآراء المجموعة الشابة، عايشتهم وعايشت ولادة نصوصهم ولامست الكثير من لحظاتهم الأولى، وكنا مجموعة واحدة اتصلنا وتواصلنا باللقاءات المباشرة وعبر الرسائل ومن خلال الأمسيات التي كنا نرتب لها بشكل خاص، حتى جلساتنا كنا نستثمرها لصالح الإبداع. وعندما بدأت تتسع دائرة المعرفة لدي والتقيت بمجموعة من الشعراء الآخرين جايلوا بدايتنا، وجدت إنهم يحملون ذات الهم وذات الرغبة بالانطلاق بالنص والتعويل عليه متنفساً وصوتاً. هذه العلامات والإشارات التي التقطت رأيت إنها قد تكون نواة جيل اجتمع في أفكاره وقراءته للواقع وإنتاج معايشته نصاً. ورغم أنه لا إطار جمعهم في مدرسة أو تيار إلا أن هذه الوحدة الفكرية كانت قادرة على جمعهم في وحدة أسميتها (شبهة جيل) عندما أنكر الكثير ما طرحت. وحتى اللحظة لم أفهم الكثير من هذه الردود. وعلى كل فهذا الطرح لم تنفرد به الثقافة الليبية لوحدها بل هو صورتنا أو نسختنا الليبية، وتعاملنا معها بطبيعتنا الليبية النافرة من التوالف والموالفة.

ولعل أهم ما يميز هذا النص هو إيمانه بقدراته وتعويله على ذائقته المعرفية، وفي مواجهة الحائط الذي يقابله ويرتفع أمامه صنع ليديه أجنحه وطار، محولاً حياته البسيطة ومغامراته الصغيرة إلى أسطورة يفاخر بها.

 

إلى أي مدى يدفع الاشتغال بالنقد “الشاعر الناقد” إلى وعيه بأدواته في إنتاجه لتجربته؟ ثمة رأي يراهن على اصطدام هذا الوعي مع الإبداع الشعري بتحول النص إلى منطقة مكشوفة تخلو من سمة الغموض التي تقترحها كينونة الشعر ووجوده؟ ما مدى صحة ذلك؟

– من منظوري الشخصي العملية النقدية عملية مغلقة، بمعنى أنها لا تقبل أن يشاركها أحد، خاصة لو إن إبداعا سيزاحمها في العقل الذي تشتغل فيه ومن خلاله. فالنقد بحث علمي يخضع للقواعد والضوابط والنظريات، والإبداع بطبعه ينفر. الناقد يحاول أن يضبط الحدود والنص لا يحب القوالب والخطوط المستقيمة. بالتالي لا يمكن أن تجتمع قوتين متنافرتين في جسمٍ واحد مالم توجه كل القوى لضبط بعضهما –كما يحدث في النواة، وتفسره قوانين الفيزياء-.

و(الشاعر الناقد) هو صورة لحاجة الساحة الثقافية والإبداعية لهذا الدور، وهذا ما تجده بشكل واضح في حالتنا الليبية، كون (الناقد) مكان شاغر ومحاولات (الشاعر الناقد، القاص الناقد، الروائي الناقد، الصحفي الناقد، الكاتب الناقد) تحاول سد هذا المكان، وهو ما أسميه بـ(الحل التعويضي) وهو مصطلح رياضي، يفسر حاجة المعادلة للحل.

ولك أن تلاحظ إن من مارس النقد أو لنقل من اجترح النقد من شعراء، لم يمارسوا هذا الفعل على نصوصهم، لأن الشاعر في طبيعته التمرد، وهو يرفض التدخل في نصوصه وتحويرها لغاية نقدية مبيته، فالمنطق يفترض أن يكون النص ومن بعد النقد كقارئ للنص.

 

بدت قراءتك للنصوص الشعرية أكثر جاذبية وإغواء للقارئ من مقاربتك لتجارب قصيدة النثر! ألا يمكن أن نعزو ذلك لصعوبة القبض على كنه تجارب شعرية تتشكل بفردية متناهية دونما إحاطة حقيقية بأكبر قدر من التقاطعات؟

– أتفق معك.

وهذا يفسر لك ما ألمحت إليه سابقاً، فقراءاتي للنصوص الشعرية قراءة تخضع للعلاقة التي أقيمها وإياه، بالتالي فالقبض على هذه الحدود يكون سهلاً ومبنيا على ما يتوافر من أدوات قراءة أزعم امتلاكها، وما يرفدها من معرفة. وفي هذه القراءات أقيم علاقتي المباشرة مع النص، النص وحده، مخرجاً الشاعر أو الكاتب من حساباتي.

أما متابعتي لقصيدة النثر فهي قراءة شخصية مني لهذا النص، وهي مجموعة من الملاحظات التي جمعتها خلال قراءتي للشعر الليبي الحديث، محاولاً القبض على لحظات هذا النص، بالتالي جاءت هذه المتابعة في شكل عناوين وتحليلات، أو قراءات أحاول من خلالها وضع تصورات لما كان أو إعادة إنتاجها في شكل نصوص. فهذا العمل أكبر من أن أحتويه وحدي. وهو جهدي المتواضع.

إلى متى بنظرك ستظل قصيدة النثر قادرة على الإدهاش فيما يتعلق بأداة المباشرة تحديداً التي تستدعي عادة التفاصيل الأكثر عرضية وثانوية؟

– قصيدة النثر نص عرف كيف يستفيد من ظرفه، بالتالي عول على النثر. والنثر كمقوم إبداعي يملك من المرونة ما يمكنه من ملائمة الظروف والمتغيرات والتسلل في الحوادث.

أما اللغة فقد أعطت النص ما يمكنه من الخروج وتجاوز دائرته.

ولا أعتقد إن المباشرة يمكننا تناولها بالمعنى السطحي، فلقد استطاعت قصيدة النثر إثبات أن الواقع أكثر غرائبية مما يمكن تخيله، بالتالي تحول الواقع إلى مادة قابلة للشعرنة، وبما يحمل من صدام ووجع نجح هذا الرصد في الوقوف على إمكانية النثر ومرونته.

 

 

تتكئ على النص ذاته في محاولة استكناهه! ألا تخشى الوقوع في فخ الاستدلال الذي يقترح المحتمل والذي -حسب خيري منصور-  يمص دم النص؟

في رأي، إن النص صورة معرفية، بالتالي فهي تحتمل الكثير وتحمل الكثير، ويمكننا إعادة تركيب هذا النص معرفيا في أكثر من صورة. وتعويلي على النص للقراءة، محاولة لإعادة تصدير أو إنتاج معرفية النص. فالدائرة المغلقة التي يكونها النص حوله لا تعرف بدايات ولا نهايات، النقطة بداية/نهاية. لكن هذا لا يشمل كل النصوص، فالصورة المعرفية للنص تختلف من نص لآخر، بالتالي تقدم صورة عن إمكانات النص/ إمكانات الشاعر، التي تعيد صب ما نقدمه من قراءات في دورة النص الدموية.

 

إذا سلمنا بأن الشكل الشعري في قصيدة النثر متعدد البناء واشيا من خلال طوبوغرافيا النص بالاختلاف بين كل تجربة وأخرى! كيف لنا غربلة الشعر من اللا شعر في ظل العناية الشديدة بالشكل؟ هل أصبح النثر استثناءً من الشاعرية؟

لا أدري لماذا يربط العديد بين النثر واللا شعر؟، وكأن النثر هو مرادف اللاشعرية، حتى في زمن الشعر –زمن امرئ القيس ومن بعده- كان هناك شعراء لم يذكرهم التاريخ لضعف نصوص.

ما أوجدته قصيدة النثر هو البراح، الانطلاق. وإن كنت استعملت في السابق الهروب من قيد النص التقليدي فإن أقول الآن إن قصيدة النثر فتحت الفضاء أمام الشاعر للانطلاق وتجاوز مكانه ولحظته. وأمام هذا الانفتاح أو الفضاء المطلق على الشاعر أن يعرف كيف يرسم طريقه ويعزز دربه.

أما مسألة التقييم، فلا أرها تخضع للقواعد الجامدة أو المقيدة، فالقصيدة العربية القديمة التي قالها “الشنفري” ليست القصيدة التي قالها “أبوفراس الحمداني”، فالزمن أوجد من الفروقات ما ينتج النص المعبر عن عصره (زمنه)، فالنص كمكون ثقافي لابد أن يعكس صورة ولغة العصر الذي يحيا. لكن العنصر الثابت في هذا التغير هو اللغة، واللغة تتكون في النثر، لذا فالجملة كصورة للتركيب النثري حافظت على مكوناتها الأساسية مستوعبة هذا التغير. بالتالي، فالنثر الصورة الأكثر قدرة على التطور والمواكبة.

ثمة حديث عن القصيدة الصوتية التي انتشرت في فرنسا مؤخرا، وهي قصيدة لا تحمل مضمونا كلاميا، فهي مجرد حروف وتنقيط! هل ستصمد قصيدة النثر أمام مثل هذه الأنماط من الأفكار الشاطحة التي -يرى البعض- بأنها لن تمهل قصيدة النثر طويلا لصناعة إرثها عبر أجيال لاحقة؟ ما دوافع نهوض مثل هذه الأنماط برأيك ؟ هل لذلك علاقة بالحداثة فيما لو تم الاشتغال عليها لاحقا من قبل شعراء ليبيين كما حدث مع نموذج النثر؟

أفق الإبداع لا حد له، والفضاء مفتوح لكل الطيور، تمد أجنحتها كيف وإلى أين تريد. وأعتقد إن حال قصيدة النثر كحال النص التقليدي، فالذائقة وحدها من تتحكم في مستوى إبداع عن غيره، وإلا ستحيا صنوف وألوان الإبداع متجاورة، دون جور. ووحدها الذائقة من تفرض على الإبداع صوره الجديدة، متحكمة فيه وفي نمطه وهيئته.

 

 

بدا بأنك تستخدم تقنية الاشتغال على الشعر في قراءة النص القصصي معتمدا الاستدلال على الظاهر! كيف يمكن صناعة الاختلاف وبالتالي الإضافة بين مقاربات الشعر والقصة من خلال محاولتك الاستقراء بذات الأدوات؟ أي إضافة حققتها قراءتك للقص؟

ربما، لكن في قراءاتي المكتوبة للنص القصصي، إنما صببت اهتمامي على النص السردي، محاولا استكناهه، خاصة للعراقة القوية بين السرد والشعر كونهما ابني النثر.

ثاني الأدوات التي دخلت بها النص القصصي هي المفارقة، كونها اللعبة الأكثر إثارة في النص –سواء شعر أو قصة-، كونها قادرة على ضغط النص وتكثيفه، أو إطلاقه، وحتى تدويره وإعادته لنقطة الصفر. أما ثالث الأدوات فكانت القصة ذاتها بما تحمل من دلالات، وما تعول عليه. وأزعم إن التعامل مع النص بشكل مجرد لا يختلف بين القصة والشعر، فكلاهما لعبة لغوية  لعبت بطريقة مختلفة.

أما القصة كنص، فتربطني معه علاقة خاصة، فقبل الشعر كتبت القصة وكانت أول ما نشرت من نصوص. فالنص القصصي يحمل الكثير، ولعل أهم ما يشدني في النص القصصي قدرته على الذهاب أكثر في اللحظة. وهو بذا يفتح أمام القارئ له فسحة أكثر للذهاب في النص، ولا أعتقد من شاعر لم يمارس فعل القص.

 

 

ثمة اعتقاد بأن قراءات الاستدلال تُحمّل النص وزر المحتمل بأكثر مما له؟ كيف ترى الأمر؟

لا نستطيع أن نزعم أن النص يمكنه تقديم دالة لا نهائية من الدلالات أو القراءات، فثمة مستوى يقف عنده التلقي كمنتج لهذه الدلالات. وما يحدد هذا المستوى ما يجتمع حول النص من قراءات، وطالما لم يتحقق هذا الحجم من القراءات لا يمكننا تقدير ما يحتمله النص.

 

 

تحدثت في كتابك “قراءات في النص الليبي” عن رصدك لما دعوته “أول ذات” في نص الشاعر المرحوم الجيلاني طريبشان! حدثنا عن ذلك؟

تجربة الشاعر “جيلاني طربيشان” تجربة غنية، خاصة وإن المتن الممثل للتجربة لا يقدم في صغر حجمه الصورة الكاملة لهذا الشاعر. ومن يرصد نص الـ”جيلاني” سيجد نفسه أمام شاعر مختلف، ومكمن اختلافه أنه عمل على الذات صنوا للنص. فالنص عند الشاعر حالة من الرصد المتعلق بالذات أو الرصد الشخصي في إعادة إنتاج المعاش في صورة نص. والدارس لتجربة الشاعر سيجد أن النص والشاعر يمثل كل منهما الآخر –صورتان لعملة واحدة- فلا يمكن فصل الشاعر عن نصه ولا يمكن فصل النص عن الشاعر، فالشاعر يلتقط معايشته ويعيد إنتاجه في شكل نص شعري. حتى ليمكننا تلمس لحظات الشاعر وتفاعله مع المحيط. هذه الذات ظهرت وأولى نصوص الشاعر حالة اختلاف، وهي نزعة حولت الشاعر عن الاهتمام بالنص (خاصة وأنه بدأ بكتابة التفعيلة)، إلى الاهتمام بموضوع النص.

 

تفترض وجود معضلة في عدم حضور صوت الثمانينيات في جيل التسعينيات بقدر ما تشهد العشرية التسعينية امتدادا للصوت السبعيني! كيف تم ذلك؟ علما بأنك لم تتعرض لمسببات هذا الانقطاع على مستوى سسيولوجي يفترض بأن لا يستثني الحراك السياسي والبعد الاجتماعي الذين لم تشر إليهما في كتابك “قراءات في النص الليبي”. كيف نفهم ذلك لاسيما وأنك وصفت الشعرية الليبية بأنها تجربة نص لا شاعر ؟ كيف تمت هذه القطيعة وهذا الانفصال، برغم إيمانك بأن الشعرية الليبية تقوم على مبدأ الاستقلال والإيغال في الفردية؟ كيف تم هذا التقاطع لتجارب موغلة في فرديتها من خلال تباين مشاربها ومذاهبها فيما يتعلق بتلك المعضلة ؟

الشعرية الليبية أو التجربة الشعرية الليبية قامت مع مبدأ الفردية والاستقلال، بالتالي لم تنجع المجموعات الشعرية المعرفة كعشريات في التأثير أو أن تكون عاملاً مؤثرا فيما يتلوها من مجمعات.

أما تجربة الثمانينيات الشعرية، فهي مسألة انقطاع هذه التجربة، في صورة أشبه بالمركب المستقل بذاته والمنغلق حول نفسه. خاصة وإن هذه الفترة شهدت خروج العديد من الأصوات، وعرفت صورا وأشكالاً من التجريب والمغامرة النصية، كما عرفت تميزاً نوعيا على مستوى قصيدة النثر، حتى إن الأمر يبدو كسباق في التميز بين الشعراء، حد إنكارهم بنوتهم، وارتباطهم بشكل أكبر بالشرق الأستاذ، للتحول الكثير من القضايا إلى نصوصهم.

أما جيل التسعينيات، فهو إن نشا بمعزل عن نماذجه الوطنية والتجربة الشعرية في ليبيا، إنما حمل الكثير من هموم الوطن في نصه، بشكل تحول فيه الوطن إلى صوت ذاتي لكل شاعر، يراه في حاجته، وهذه الصورة التبدو مادية هي سؤال وجود الشاعر الذي يبحث فيه. في منهجية. بالتالي أعادت هذه المجموعة صورة السبعينيات الضاجة ثورة وإن لم تكتمل صورتها.

كيف يتسنى لنا فهم ما سميتموه بالانقطاع لجيل التجارب المختلفة، في حين تستشهد فقط بنفي شعراء الثمانينيات لتواصلهم مع جيل السبعينيات، واعترافهم بالفضل لتجارب المشارقة، وكأني بك تفترض جيل التسعينيات محض نبتة شيطانية نبتت في كف حجر من لا شئ دون أن تكون امتدادا للعشريات السابقة، ألا يبدو ما تدعوه بالانقطاع لا يعدو كونه  محض تجريب فردي من صميم تشكيل ملامح شديدة الخصوصية لولادة قصيدة النثر الغير ممهدة والتي لا يزيد رصيد وجودها العربي على الأربع عقود؟ ألا يبدو هذا “الانقطاع” متحققا في تجارب الطلائع الراهنة؟

لو عدنا للمتن، واعني التجربة الشعرية الليبي كنصوص مجردة، بمعنى استبعاد أسماء الشعراء والتاريخ الذي تنتمي إليه. لوجدنا أنفسنا أمام نصوصٍ لا يمكن تمثيلها في خط بياني يجمع فيما بينها، إذ لا وحدات أو ثيمات تجمع فيما بينها، باستثناء ما أوجدته الفترة من ثيمات في نصوص الشعراء، رغم انفراد كل تجربة بشاعرها واستقلالها بصوتها. بالتالي فمسألة العشرية صورة أقرب للإحاطة بالتجربة في عمومها.

بالتالي لو مثلنا التجربة الشعرية الليبية في سلسلة، لوجدنا أن كل حلقة تختلف عن الحلقة التي تسبقها، لونا وحجما. وذات الحلقة مكونة من مجموعة ألوان ومركبات. هذه الحلقة في شكلها الهجين تحقق انقطاع كل تجربة، وأن ما يجمعها هو نسبتها للقطر الجغرافي الذي نشأت فيه.

نلحظ غياب قراءتك “للتحولات الفنية” في تجارب السبعينيات التي جايلت من خلال استمرارها في الكتابة تجربة الثمانينيات ومن ثم التجارب اللاحقة حتى الراهن الشعري وكذا الأمر بالنسبة لتجارب عشرية الثمانينيات التي جايلت من خلال استمرارها في الكتابة أيضا لعشرية التسعينيات مكتفيا فقط في قراءتك لعشرية بعينها لطلائع التجارب الجديدة؟ ألا يبدو ذلك بحد ذاته تكريسا لفكرة الانقطاع فيما نجد ثمة نمط فني قد يجمعها جميعا ضمن عشرية بعينها؟ كيف ترى الأمر؟

لا اتفق معك فيما ذهبت إليه. فلقد قدمت مجموعة من القراءات في مجموعة من النصوص الشعرية –وأعني الشعراء-، في مختلف التجارب، بداية من الستينيات وحتى التسعينيات، وحاولت التوقف عند ما استطاعت تقديمه هذه النصوص وما أوجدته.

وفي هذه القراءات، كنت أخلص للنص وحده، محاولا استنطاقه والقبض على جمالياته، ولم أحاول أن أركز على فكرة الانقطاع أو غيرها، بل كنت أبحث في هذه النصوص عن علاقة بالجغرافيا التي تجمعها والتجارب المجايلة، كنت أبحث عن ثيمة جامعة ووجدت أن هذه التجارب الشعرية في انفرادها كأصابع اليد تجتمع في راحة إخلاصها لتجربتها وللجغرافيا التي تنتمي لها. وأذكر ممن تناولتهم بالقراءة الشعراء: علي صدقي عبدالقادر، علي الرقيعي، لطفي عبداللطيف، علي الفزاني، راشد الزبير، حسن السوسي، نصرالدين القاضي، محي الدين المحجوب، مفتاح العماري، سالم العوكلي، أحمد بللو، وغيرهم.

ينذر تعرض النقد في ليبيا لتيمات بعينها ضمن الاشتغال على نصوص عديدة لشعراء مختلفين! ألا يصب هذا النمط من الاشتغال لصالح التقاطعات بين تجربة وأخرى؟

هذا يقودنا إلى حدي سابق، عن غياب النقد المنهجي، أو الناقد الحقيقي، القادر بفضل المنهجية تقديم نص نقدي قادر على فتح الكثير من أبواب وعوالم النص.

تعتبر حضور اليومي في قصيدة النثر أحد مظاهر تجليات الحداثة وبأن هذا الحضور يمنح النص ما دعوته “حلولا زمنيا” أو “طزاجة”! حدثنا عن ذلك؟

اليومي يخرج النص من دائرة النمطية، ويمنحه فرصة المعايشة، وبقدر ارتباط النص بهذه (الطزاجة) يمتلك النص (حلولاً زمنياً) يكون فيه النص صورة موازية للواقع، وفرصة لمغادرة منطقة الرتابة والذهاب أكثر في الحياة. وهنا لا نقصد مجرد الصورة المباشرة إنما الالتقاط والرصد، فالحياة تقدم صوراً أكثر غرائبية، ومن النماذج التي اذكرها الآن نص (ربع دينار) لـ”زكريا العنقودي” في التقاطة لحكاية الليبي وربع الدينار. فهذا النص كمثال يحمل الكثير من وشائج ارتباطه بالواقع –المعاش- بحيث تتحول لحظات النص وتاريخه إلى وثيقة.

كيف يتسنى لنا فهم سطوع النص الشعري في ليبيا على حساب التجربة سواء أكان مبدعه شاعرا مغمورا أو اسما مكرسا؟ أي دلالات لذلك؟

اعتقد عن لهذا علاقة بطبيعة نشأة التجربة الشعرية في ليبيا، كونها نشأة في صور مستقلة بالتالي كان الإخلاص للنص أكثر من الإخلاص للشاعر، وكون الشاعر نشا بمعزل عن جماعة أو مدرسة، وخارج التكريس الشعري الذي توجده التقاليد الثقافية، تكون النصرة للنص.

نشر بموقع ليبيا اليوم .. بتاريخ: 09/06/2009


الناقد مكان شاغر والثقافة الليبية هي ثقافة التلميذ

تعليق واحد على “الناقد مكان شاغر والثقافة الليبية هي ثقافة التلميذ

  1. علي الربيعي يقول:

    الشاعر رامز النويصري , أحد الذين تعاونوا معي بجدية في محاولتي لإضافة شئ للشعرية الليبية عبر حواراتي التي توقفت بسبب غطرسة المثقف الليبي وفوقيته الكريهة في تعامله مع الصحافة والصحفيين, حيث أذكر أن النويصري جهز هذا الحوار في مدة خمسة عشر يوما رغم إنشغاله بالدراسة في بريطانيا في تلك الفترة ! وهي أقصر مدة لشاعر يتم فيها إنجاز حوار مكتوب (شغلي طبعا ), فيما كان البعض يتوسل وبوقاحة في أن أجري حوار معه , فأشتغل على تجربته بعناية وعند تسلمه للحوار تبدأ رحلة المماطلة الوقحة , حيث وصل زمن استلامي لبعض الحوارات لمدة أربعة شهور وستة أشهر وحتى الأربعة عشر شهرا , وهناك حوار مطول مع شاعر صعلوك لم أستلمه منه حتى اللحظة (أي منذ ما يزيد عن الأربع سنوات ) والذي لن استلمه أبدا طبعا , علاوة على أني خسرت شعراء كثر إثر غضبي الشديد لتباطؤهم الفج في انجاز حواراتهم, أشكرك جدا رامز , وسحقا لهكذا ثقافة وهكذا متثاقفين !سحقا لأولئك الأوغاد جميعا !
    علي الربيعي

اترك رداً على علي الربيعي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *