قراءة في رواية (أراك في كل مكان) للكاتب محمد التليسي
رامز رمضان النويصري
الرواية الشابة
من فترة، بدأت بكتابة موضوع حول الرواية الليبية الشابة، أو الرواية التي يكتبها الشباب، والذي ظهر إنتاجهم الروائي فجأة وبقوة، واستطاع بعضهم أن يجد لنفسه مكاناً على الخارطة الأدبية محلياً وعربياً سواء من خلال النشر والتوزيع خارج ليبيا، أو من خلال الفوز بجوائز عربية وعالمية. وهنا كانت الشبكة (الشابكة)، ومنصات التواصل الاجتماعي هي الوسيلة للاتصال والتواصل.
بدأت ولم أكمل! الأسباب كثيرة، أولها وآخرها الانشغال، وقلة ذات الوقت. خاصة وإني قرأت الكثير من هذا النتاج الروائي الشاب، سواء ككتب منشورة، أو من خلال مخطوطات ما قبل النشر. وأزعم أنه قد تكونت لدي فكرة عامة عن هذا المنتج الإبداعي، فكراً وثقافة، وإبداعاً!
وهنا أستطيع القول إن ما يميز هذه الكتابات، شجاعة كتاباها في خوض هذه التجربة، وخروجهم عن دائرة المحلية، والتواصل عربياً وعالمياً، بمساعدة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، رؤيتهم المختلفة وتجاربهم الاجتماعية المغايرة عما عشناه، والأهم مناقشتهم من خلال أعمالهم الروائية عديد الموضوعات الجريئة والقوية، على جميع المستويات، وفي ظني إن 17 فبراير استطاعت أن تكون نقطة انطلاق الكثير من الأدباء الشباب، فالكثير من الممنوعات سقطت في مناخ الحرية والدعوة للتحرر من قيود الماضي، والرقابة على النشر، وإن كانت مستمرة، وكان أن وجد هؤلاء الكتاب الشباب أنفسهم أمام مجموعة كبيرة من الأسئلة، ومناخ يشجع على البحث عن الأجوبة، وهذا يذكرني، ببداياتنا ككتاب شباب كانت الكثير من أسئلتنا تعود خائبة.
كما تكشف هذه الأعمال الشابة عن اتصال أوثق بالواقع المعاش، والأرض أكثر، بل إن بعضها ينبش في التاريخ، ويستخرج منها القصص والأحداث، بإعادة اكتشافها أو أعادة إنتاجها في شكل سردي.
من أنا؟ ولماذا هربت؟
لعله من أهم الأسئلة التي اشتغل عليها الكثير من كتاب السرديات الشباب، سؤال الهُوية؛ سؤال من أنا؟ والذي يبدأ من الذات ليشمل الوطن والمواطنة، إلى طرح الأسئلة والتفكير في الوجود والحياة. وهذا ما حاول كاتب رواية (أراك في كل مكان)* أن يقوله من خلال سلوك بطل الرواية (عمر).
فبالاتكاء على دلالة الاسم (عمر) من العمر وهو الحياة؛ يحاول الكاتب “محمد التليسي”، أن يقول؛ إن التجارب الحياتية لا ترتبط بعمر الإنسان كما يروج لها المجتمع، إذ الاستفادة من التجارب والحوادث هو الأهم، كما إن علاقة العمر بالتجارب ليست خطياً، فقد يتعرض الشاب إلى تجارب وحوادث، أكثر مما مر في حياة شيخ ستيني، وهذا ما عاشه بطل الرواية، وهو يبحث عن ذاته، ليكون لوجوده في هذه الحياة معنى، فيترك وطنه ويهاجر. وهو ما يمكنني التعبير عنه رياضياً، أن التجارب دالة في الزمن.
المسألة الثانية التي ارتكزت عليها الرواية بعد التجربة الحياتية، هي أثر الحب في حياة الإنسان، وهنا لا نعني بالحب العلاقة بين الرجل والمرأة، إنما الحب في شكله المطلق كعاطفة إنسانية، من المهم التعبير عنها، وحضورها بشكل دائم في حياتنا، وقدرته على إحداث التغيير، وتجاوز الأزمات. وفي مقابل الحب، هناك الكره، الذي يحمل ذات التأثير في حياة وتجربة الإنسان. وقدم الكاتب من خلال هذين الوجهين مجموعة من العلاقات والصفات، الصداقة، والأخوة، والعائلة، الخيانة، الكره، البغض،… إلخ!
مسألة ثالثة، أثبتت حضورها في الرواية وبقوة؛ حضور المكان وما يمثله بكل مكوناته، كوطن وسكن، إذ بالرغم من هجرة شخوص الرواية، يظل هناك خيط قوي يشدهم إلى أمكنتهم الأولى، ويجعلهم وهم في غربتهم يتوجهون إليه في لحظات ضعفهم، إنها النوستالجيا. والكاتب بقدر ما يؤكد على حضور شخوص الرواية في أمكنتهم الحاشرة، يؤكد تمكن الأمكنة التي هاجروها فيهم، وإن المكان ما يسكننا لا ما نسكنه!
المسألة الأخيرة التي أحببت التوقف عندها في هذه الوقفة الأولى، من خلال قراءة عامة أو ثقافية للرواية، العلاقة بين الشرق والغرب، أو بين دول العالم الثالث، التي سكنتها وهاجرتها شخوص الرواية، ودول العالم الأول التي يستقر بها شخوص الرواية، المحطة التي يطمح كل من في الشرق الوصول إليها، كدول غنية ومتحضرة، تحترم الإنسان. لذا فإن الحب سيكون قادراً على جمع هؤلاء الغرباء على الأرض الغريبة، في كيان يكون قادراً على تحقيق الوجود المادي لهم، تحقيق الجدوى من هذا الوجود.
قراءة الرواية!!
منذ البداية أقول إن هذه الرواية من الروايات صعبة القراءة، كونها نص متصل، حيث لم تقسم إلى أجزاء، فهي نص سرد متدفق، مما يجعل من المهم في كل جلسة قراءة التأكد من موضع الوقف، مع الأخذ في الاعتبار العودة للخلف قليلا في الجلسة التالية.
هذا التدفق السردي جعل النص كتلة واحدة، ممثلة في بعدين اثنين؛ بعد أفقي – زمني، تمثل الرواية ذاتها، وبعد رأسي – تفاعلي، تمثله أحداث الرواية، وعلى هذين المحورين (كتمثيل رياضي) يتحرك منحنى الرواية بين الصعود والهبوط والثبات أحياناً.
ولدفع منحنى العمل للصعود في لحظات هبوطه، يعمد الكاتب إلى ابتكار مجموعة من الصدف، لتحريك الأحداث في الرواية والرفع من نسقها ودرجة تفاعلها، والصدفة هنا في باب صنيعة القدر، الذي يكون الإنسان فيه مسيراً. وأجد من الواجب هنا أن أنوه، إن أسلوب الكتابة المتدفق، في ظني هو ما أجبر الكاتب إلى افتعال هذه الصدف، لمنح النص فرصة للاستمرار أكثر. وهو ما يذكرنا بالروايات الأولى حيث الاهتمام ينصب على الحكاية وتطعيمها، من خلال نص سردي متدفق في كتلة واحدة.
النص يعتمد أسلوب الراوي بضمير المتكلم، حيث البطل من يقوم برواية أحداث الرواية، مما يجعلها رواية سيرة ذاتية، وهذا يحيلنا إلى ما يتعلق بكتابة السيرة من تحكم الراوي (بطل الرواية) بمسار الحكاية (القصة)، كما يريد هو، وبالنسق الذي يريده، ومن وجهة نظره هو، وهذا جعلنا نرى القصة بعين الراوي (بطل الرواية)، دون أن يكون لشخوص الرواية طريقة لسرد الحكاية كما يرونها. وبذا نرى إن الأحداث كل الأحداث يكون البطل حاضراً فيها، ويصفها كما يشعر لا كما حدثت في الواقع.
وحتى يخرج الكاتب من هذه الأحادية، شبه المسيطرة على الرواية، عمد إلى إشراك بعض الأصوات، لإضافة رؤى مغايرة، وأفكارا مختلفة، تمنح النص بعداً موازياً لرؤى وأفكار الرواية، من خلال تقنية الحوار مع شخوص الرواية، ومن خلال إثارة بعض القضايا للحوار والنقاش حولها.
اعتمد السرد في الرواية، على الوصف، وهو النسق الذي يناسب شكل الرواية المتدفق، ويوافق تفاعل أحداث الرواية، فيراوح بين الوصف السطحي والوصف العميق، بما يتناسب مع اللحظة، ويكون قادراً على إيصال الرسالة للقارئ. وهو لذلك يستخدم لغة تصويرية، ويعمد إلى اللعب على الأحاسيس، لمنح المشهد أكبر قدر من الحرارة.
ختامًا…
من التقنيات التي اعتمدها الكاتب محمد التليسي، تقنية الفلاش باك، بحيث يمكن للكاتب في أي لحظة الخروج والعودة إلى متن الرواية، في شكل إلماحات أو إشراقات، كما تضمن النص مجموعة من التضمينات الأدبية الشعرية، وأعتقد إن الشعر كجنس أدبي، نص يمكنه أن يكون وسيلة للتواصل والاكتشاف.
رواية (أراك في كل مكان) نص روائي متزن، لا تخلو من بعض عثرات البدايات خاصة وإن الكتابة الروائية تعتمد على الممارسة، وهذا ما ننتظره من جديد الكاتب محمد التليسي.
________________
* محمد التليسي (أراك في كل مكان)، دار الرواد، طرابلس، 2021م.