1
ثمة سؤالا كثيراً ما أكرره باحثاً له عن إجابة: هل من الضروري أن يعيش المبدع المعاناة ليكتب أو يرسم أو يتفاعل أداءً؟
لأجدني أمام سؤال استفساري: هل المعاناة مخصصة في جانب، أم إنا نتحدث عن المعاناة بشكل عام؟، فالنسبية هنا قد تتفاوت في حسابها ونتاجها إبداعياً.
لكني بشكلٍ عام، أجدني أنتهي لقاعدة أزعم إنها ثابتة -وهو ما أعتقده-، أو لنقل مجازاً حقيقة، إن الإبداع في حقيقته عملية ابتكار؛ والابتكار هنا بمعنى الخلق والتكوين (بالمعنى المجازي للكلمات).
فالعمل الإبداعي عملية ابتكار، يجتهد الكاتب للوصول فيها لحالة من الكمال، يجيزه بها للحياة، وهذه الحياة التي تبدأ حال النشر، هي في حقيقتها حيوات، يعيشها النص في كل قراءة، وكل معالجة؛ قراءة أو نقد. وعليه لا يكون النص حياً إلا بنشره.
ولو سلمنا بهذه الحقيقية، والتي أؤمن بها، فإن الإبداع يكمن في قدرة الكاتب على إبهار المتلقي بمنجزه، وهنا الأمر لا يتعلق بالإبهار الخارجي (الشكل)، وهو مطلوب كعتبة للدخول، إنما القدرة على الإبهار الداخلي للعمل (القلب)، الذي يمكنه حبس القارئ إليه، وإبهاره في كل انتقال، أو حركة، ويحرص على دغدغة منظومة التوقعات عنده، ومفاجأتها.
والابتكار كعملية إنتاجية يعتمد على؛ إمكانيات الكاتب الفنية، وتجربته، ومغامرته في التجريب. وباستثناء التجربة لا ترتبط هذا المقومات بالعامل العمري للمبدع، إنما على اجتهاده ودأبه، وحتى التجربة في الميزان العمري يمكن تجاوزها والقفز على مراحلها، بالمغامرة والمثابرة، وهو ما نراه في التجربة التي هي محل هذه القراءة.
2
الجميل في علاقتي بهذا القاص، إننا لم نلتقي وجهاً لوجه إلا مرة واحدة وعلى عجل، وحتى لم تتح لنا الفرصة للجلوس والإيناس، لكنها كانت كافية للوقوف على شخصية من نوع خاص، وهو ما لمسته قبلاً من خلال كتاباته القصصية، التي أزعم إني على معرفة بها بشكل جيدٍ جداً، مواكباً هذه التجربة منذ بدايتها، والتي استطاعت بالرغم من حداثتها –عمرياً- الوصول لدرجة من النضج الفني. فقصته تعكس قدرة في الحفاظ على التفاصيل واستذكارها، والاستفادة من شخوصها في تكوين مشهدٍ قادرٍ على الإبهار، فهو في قصصه الأولى؛ يبدأ بالمكان، فيعمل على تقوية علاقته به، والغوص فيه، وحفظ تفاصيله، ثم من بعد، يعمد إلى أقامة علاقات مع شخوص المكان، وهو يذهب في هذه العلاقة ما يستطيع، وهو هنا يعول على الاندماج فلا يعود غريباً، بالتالي عندما يكتب قته يكون جزء منها، لا منفصلاً عنها، وهو ما تعكسه لغة النص، سرداً، وبناءاٍ. أما الابتكار فيتركز في قدرته على جمع هذه الخيوط في جسد النص، حبكة وأحداثاً. وهذا الأسلوب يذكرني بأسلوب القاص المبدع “كامل حسن المقهور” -رحمه الله-، في القدرة على التصوير واستحضار التفاصيل، وفهم الشخوص جيداً وبناء علاقة قوية وإياها.
في النص الروائي، يتعامل صديقنا بذات الأسلوب، لكنه يعول أكثر على تطوير علاقاته بالشخوص، ومنح هذه العلاقات الفرصة لبناء منظومتها الاجتماعية. وهو يستفيد بذكاء من حصيلته المعرفية، وما تعلمه في كلية الهندسة من قواعد ومعادلات، يعيد إنتاجها في منظومات دلالية، مستعيناً بالسرد.
ما دعاني لكتابة هذه القراءة، مجموعة نصوصه الأخيرة التي نشرت تحت عنوان (تاجر الأوهام)، والتي يمكننا اعتبارها مرحلة جديدة في تجربة القاص الشاب “محمد النعاس”، ففي هذه التجربة يتحول المكان إلى خلفية لها حضور توثيقي، بمعنى إثبات مكاني وزمني، ويتركز العمل على تطوير العلاقة بين شخوص النص، ومنح الحدث أكثر من مستوى، فلا يعود الحدث هدفاً لذاته، إنما ما يمكن أن يقدمه من دلالات أو إحالات.
هذا النص الذي اختار له “النعاس” القصة قالباً، خرج به من حدود القصر (القصة القصيرة)، إلى الطول (القصة الطويلة)، لبناء عملٍ قصصي مكتمل البناء والحبك وبقليل من العمل يمكن جمع هذه الحلقات في جسد واحد، تحت جنس الرواية.
خاصة وإنه عمل عليها بجد، خاصة في لغة النص، التي تعكس حرص القاص على تحميلها ما يمكنها من دلالات، وما تستطيعه من إحالات تجعلنا نعيد الجملة، ونراقب الحوار، ونجاري الحدث. فهو يختار المفردات بعناية، وينقل الحوار في لغته، ويصور المشاهد كما هي، معتمداً على ما يمكن أن يحمل الواقع من إبهار، تاركاً لشخوصه حرية الحركة، مستفيداً مما تراكم لديه من قراءات.
وما أختم به هذه السطور، لعبة الابتكار التي يمارسها “محمد النعاس”، فنشوته لا تكمن في الابتكار ذاته، كتاباته لنص، أو تكوينه وخلقه نصاً إبداعياً، أنما نشوته الحقيقة في إعادة ممارسته الابتكار الداخلي للنص.
فالابتكار المبتدأ، متعدد الأخبار، والتي قد تأتي؛ متسلسلة في خطٍ متصل، في مجموعة من الأحداث أو الحركات أو الانتقالات على مستوى الشخوص، أو متشعبة قد يتوقف حدث، ليستمر في مستوى آخر، أو طريقٍ فرعي.
لكن هذه اللعبة بقدر متعتها، تحمل في داخلها انهيار النص، عندما تمارس لأجل التسلية المجانية، أو الاستعراض، أو الحشو، و”النعاس” أدرك هذه المعادلة فعرف كيف يمسك بأطرافها، ويحرك حدودها.
“محمد النعاس” قلم شاب، يعد بالكثير، بالرغم من انعدام وسائل نشر الإبداع، أو الاحتفاء بهذه التجارب، التي قد تغير كثيراً في خارطة الإبداع الليبي. خاصة وإنها تسعى بدأب ومثابرة.