تشير الإحصائيات، أن مجموع ما يقرأه المواطن العربي هو ثلاث ورقات في العام، مقابل خمسة كتب للمواطن الغربي. لكن لو حاولت الحديث مع هذا المواطن العربي، فإنه ستجده على إحاطة بأمور السياسات العالمية وفكرة جيدة عن الاقتصاد، وأيضاً معرفة ببلاد العالم وعواصمها وأسماء أشهر المدن فيها، والشخصيات العالمية ونجوم السينما، ومعلومات عن ممالك الحيوان، ومناخات العالم وغاباتها وما تحوي من حياة، بل قد تجد من يناقشك في الأمور الدنية ويحفظ الكثير من الفتاوى وأسماء المشائخ والعلماء، بينما المواطن الغربي، لم يعرف أين تقع ليبيا ولا لون علمها1، ولا ما هو الوطن العربي. فكيف لهذا المواطن الذي لا يقرأ، ولا يعرف كيفية البحث في الموسوعات، والمعاجم، الحصول على هذا الكم من المعلومات؟.
الإجابة بسيطة، إنها رحلة تصال طويلة بدأت مع الراديو، واستراحت مع التلفزيون، واستطابت مع البث الفضائي. إذن فالأمر مرهون بالتلقي، فالمواطن العربي جُبل على عدم السعي وراء المعرفة، إنما تلقيها، والملاحظ إن المجتمعات العربية لازالت حتى اللحظة تعتمد على الوسيط الشفهي أو المشافهة بدل التوثيق المحبوس إلى الورق، وأيضاً، لازال الحفظ هو الطريقة المثلى في التعليم والدراسة، وهي الطريقة التي المثلى في بعض المجموعات لحفظ وتناقل موروثها ومنتوجها الثقافي من عادات وأشعار وحكايا من جيل لآخر تالي. الأمر الذي جد على نظرية المعرفة العربية الشعبية، التلقي لا البحث، هو استخدام النظر، إضافة للسان والأذن، كوسائل تلقي. وهذا ما يفسر ضعف مستوى القراءة عربياً، وعالمياً، تؤكد افحصائيات تراجع نسب قراءة الكتب والصحف والمجلات، أي تراجع نسبة قراءة المطبوعات واقتصارها عل كبار السن. وسأتوقف هنا مخافة الإطناب، والخروج عن المقصد.
مع نهاية القرن الماضي، بدأت شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) انتشارها بشكل موسع، خارج حدود الهيئات والإجهزة، وصار من السهل الحصول على اتصار بالشبكة من بيتك، ومع دخول الألفية الجديدة ارتفع عدد المواقع والصفحات الإلكترونية بشكل كبير جداً، وعرفت الشبكة تـنوعاً معرفياً يوافق أهواء وميول المتلقين على اختلاف ثقافاتهم ومرجعياتهم، وأود الإشارة، أني هنا لا أدخل مبدأ ثقافة الاختلاف، أو الاختلاف من أجل الاختلاف ضمن دائرة القراءة2. وهنا نقف أيضاً للدخول من مدخل آخر، أسميه المعادلة.
المعادلة التي أعتمدها تقول: إن القارئ النخبوي، أنتج كاتباً3 نخبوياً (وقد يكُونُه).
بداية، من هو القارئ النخبوي؟، وما هو؟، أو كيف هو؟. المقصود بالقارئ النخبوي، بأنه القارئ الذي يستخدم شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) كمصدر للمعرفة، وكنتيجة، فإن كل متصفح للنت هو قارئ نخبوي بدرجةٍ مّا. وصفة النخبوية، هي سلوك الانتخاب الذي يعتمده المتصفح عند إبحاره في الشبكة، فهو يقوم بزيارة مجموعة من المواقع والصفحات والتفاعل معها، إذن فهو ينتخب ويختار لنفسه، ما يعتقد بأنه يزيد من ذخيرته المعرفية، والمتصفح المحترف يكون لنفسه ترتيب معين للمواقع الذي يداوم على زيارتها. هذا القارئ لا يمثل قيمة في عدد متصفحي الشبكة، وهو في ذاته لا يؤثر في زيادة هذا العدد، إنما عند اقتران عدد المتصفحون بموقعٍ بعينه، يكون لهذا القارئ التأثير الكبير، فهو إضافة في عدد زوار المنتدى فالرقم 1 الذي يمثله المتصفح، قد يغير من ترتيب الموقع في عدد زواره، وإن تجاوز المليون زائر. والمعنى، إن هذا القارئ وهو يقوم بعملية اختيار أو انتخاب موقع بعينه، عن قصد أو توجيه أو دعوة، فهو في ذات الوقت يقوم بانتخاب والدفع بالموقع الذي اختاره درجةً، ومن ناحية يفرض على الموقع تطوير أدائه لإبقاء هذا القارئ متواصلاً بشكلٍ مستمر، وهنا عليه –كموقع- اختيار وانتخاب الجيد، الموقع هنا هو الكاتب النخبوي في صفة الفرد الكاتب، أو المشرف، أو العضو المنشئ للمادة المعرفية.
ما يميز الشبكة عن وسائل الاتصالات الأخرى، القديمة والحديثة، بداية، هو دمجها لأكثر من وسيلة اتصال، واستيعابها للقوالب القديمة وتوفيرها للمتصفح، وثانياً –وهو الأهم-، هو التفاعل المباشر مع الموضوع من خلال الشبكة، الأمر الذي يرفع من مستوى التلقي الانتخابي، ليتجه المتلقي (أو المتصفح) للموقع (أو المواقع) التي تمكنه من التفاعل والاتصال. ومن ناحية أخرى، يحفز الكاتب على الارتقاء بمستوى ما يقدم من مادة، والاستجابة لتفاعل المتلقي، مشكلان فيما بينهما حواراً مفتوحاً لا يتحدد بمكان بعينه، ولا وقت، ولا اتصال لحظي، منتجين بذلك دائرة اتصال، تماثلها أخريات، هي مجموع ما استطاع الكاتب تكوينه.
وفي المسألة الإبداعية يكون هذا التكامل، هو الغاية لطرفي المعادلة، فالمبدع يقدم إنتاجه الإبداعي، ويسعي لجذب أكبر عدد من المتلقين. والمتلقي يبحث في هذه الشبكة مفتوحة الأفق، عما يشبع رغبته المعرفية، وحال سقوطه على ما يريد، يكون تفاعله قد بدأ بانتخابه لهذا المنتج الإبداعي وحضوره كزائر له (لوصلة الموقع)، قد ينقطع هذا التفاعل بنهاية القراءة أو المشاهدة أو الاستماع، وما يتبع عملية التلقي من بناء لصور وروئ وأفكار، وقد يكمل هذا المتلقي تفاعله من خلال التعليق، أو الإضافة أو الاختيار، وهذا المتلقي هو ما يعول عليه المبدع لاكتمال دائرة التلقي وتحقق الفائدة.
فالنص هنا هو محور الاهتمام (التلقي)، وليس الكاتب، التي هو وإن كان في ذات الشبكة، إلا أن علاقته بالمتلقي، والذي ليس من الضروري معرفته، تتم عن طريق المنتج الإبداعي، وسيعكس التفاعل مستوى التلقي وتحققه. وليتحقق وجود المبدع على الشبكة لابد له من تطوير تقنياته وأدواته من أجل إنتاجٍ إبداعي مُنتخب، قادر على تحقيق أكثر من دائرة تلقي. وعلينا إدراك إن هذا المتلقي لن يكون منقطعاً لهذا المبدع (الموقع)، إنما هو على اتصال بأكثر من واحد، بالنتيجة، سيكون المتلقي واصلة (معرفية)، يمكن الوصول منها إلى بقية المواقع، أو أن يكون معرِّفا بها.
المستقبل يؤكد إن الشبكة ستكون وسيط الاتصال المعرفي الوحيد بين البشر، بمعنى، أن المنتج الإبداعي سيكون الواجهة أو صورة الكاتب التي يتصل بها المتلقي، أما الكاتب فلن يكون أكثر من اسم مرفق، حفظاً لحقوق الملكية الفكرية، فهو والمتلقي طرفان يملكان ذات الأدوات للتواصل عبر الشبكة، المبدع ينشئ ويرسل، والمتلقي يتلقى ويتفاعل، وعلى هذا الطرف المنشئ، أن يكون قادراً على استقطاب أكثر قدر من المتلقين، وتكوين أكبر قدر من دوائر التفاعل (التلقي). والرهان لتجربتنا العربية هو مقدار وسرعة تقبلنا واستعلالنا لهذا الوسيط المعرفي الجديد، لإثبات وجودنا.
__________________
1- عندما كنت في بريطانيا للدراسة، وجدت إن الكثير من الإنجليز لا يعرفون ليبيا، ولا أين تقع. أما قصة العلم فقد جاء في مسابقة ثقافية، وخسر الفريق السؤال لأنهم لم يعرفوا أن ليبيا هي البلد الوحيد الذي علمه من لونٍ واحد.
2- يمكن مراجعة مقالتي (مع/ضد.. ثقافة الاختلاف) المنشور على موقع ليبيا اليوم.
3- لا تعني الكاتب هنا، المبدع، إنما صفة لمن يقوم على الكتابة سواء الإبداعية أو الكتابة في المواقع بصفة الإشراف أو العضوية.
نشر في صحيفة ميادين_ العدد: 27_ 15-11-2011