كثيرة هي النظريات التي ناقشت مسألة (وظيفة الأدب)، باختلاف العصور والأزمان، في محاولة لتعريف الأدب ووظيفته؛ خاصة وإن الأدب عملية تفاعلية بين منتج ومتلقي. فالمنتج يقدم إنتاجه الأدبي بالاعتماد على البيئة والمجتمع والتراكم المعرفي والثقافي له، وبذات المستوى -وهو ما نفترض- يقوم المتلقي بعمله من خلال ذائقته التي تعتمد ذات الروافد. بذلك يمكننا فهم اختلاف وجهات النظر، وتباينها في فهم وظيفة الأدب، وما يُراد منه!
قد يرى البعض إن مهمة الأدب تقديم الفضيلة والتركيز عليها، بينما ارى إن من وظائف الأدب الغوص في المجتمع والتعبير عنه وكشف المستور، أو ما يعرف بالمسكوت عنه! نعم وهذا لا يعني اعتراضي على وجهة النظر الأولى، ولا التنازل عن وجهة النظري، لأن الاختلاف حق طبيعي أصيل، يغني المشهد ويلونه ويمنح الفرصة للآخرين إيجاد ما يبتغون من ألوان الأدب.
وكنتيجة، لن يكون من المجدي للأدب تعصب كل فريق لرأيه، حدّ القذف والتجريح والإنكار، وغيرها من التهم! لأن غاية الأدب روحية وليست نفعية مادية؛ أو هذا ما أراه.
السؤال الآن: تسليماً بوجهة نظرك، إلى أي مستوى يمكننا الغوص في المسكوت عنه؟ أو إلى أي مستوى يكون الكشف؟
قبل الإجابة أود التركيز على مسالة مهمة، وهي أني أرى إن الأدب في وقتنا الحالي؛ تخطى مسالة الترف، بأن يكون مفصولاً عن واقعه، وأن الكاتب أو الأديب الجيد -الألمعي- هو القادر على خلق عوالم موازية أو متخيلة، ليكون جزء من الحياة، قطعة أصيلة منها، بما في هذه الحياة من ثقافة وأفكار، وشخصيات، فالواقه الذي نعيشة الآن، يثبت انه أكثر غرائبية مما يمكن للمخلية أنت تنتج، بل إن المخيلة لن تنجح في إنتاج شيء ما لم تكن على اتصال مباشر وعميق بواقعها.
كما إن الفجوة الكبيرة بين المجتمعات الإنسانية، والواقعية المجردة التي يعيشها الإنسان في عصرنا الحديث، كفيلة بجعل الصور النمطية منفرة وغير قادرة على الإبهار، في ظل قنوات التواصل والاتصال الحديثة. هذه الفجوة كشف كم نحن مجتمعات مازالت تراوح في مكانها، ولم تستفد من تجاربها السابقة ولا ماضيها العريق في الاعتماد على نفسها، فما كان منا إلا استيراد نماذج وأنماط ثقافية غريبة عنا، واعتمادها، وفي ذات الوقت تشريحها وتجريحها وتحميلها مآلات التردي الذي نعيشه!
عودة للسؤال، أقول:
إن الكشف يتناسب طردياً مع حجم الفساد -والفساد هنا تعبير مجازي، يقصد به أي صورة للخلل في المجتمع- الذي يعيشه المجتمع، متمثلاً صرخة الشاعر أبوالقاسم الشابي:
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً
فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا سالتْ
تَهُدُّ القبورَ رمساً برمسِ
ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي
كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي
كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي
فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
فكيف يطلب من الكاتب، وهو جزء من مجتمعه أن يكتب أو يتمثل صوراً وأخيلة بعيدة عنه، ونحن نطالبه بأن يكون ابن بيئته، وصوت مجتمعه، وألا يكون مقلداً للثقافات الغربية، فكيف من بعد نهاجمه وننعته بأقذع الألفاظ والنعوت؟ لأن كل ما قام به هو نقل جزء مما يعيشه المجتمع في صورة أدبية، بل والتمادي حد اعتباره أحد أذرع المؤامرة التي تحاط حو ثقافتنا العربية والإسلامية والموجهة بشكل مباشر ضد مجتمعاتنا الليبية، التي مازالت مشدودة إلى مجموعة من الخرافات والمعتقدات والموروثات البالية، التي تتأرجح بين الفكر الطوطمي والعقائدي، والفكر الذكوري والعنصري.
نعم، الغوص في بقدر الفساد الذي يعيشه المجتمع، الفساد الذي استطاع الكاتبة نهلة العربية، رصدة والتعبير عنه في روايتها الأولى (السَّاحر). وهنا من المهم الإشارة إلى أن الرواية كجنس أدبي، وإن كانت بدأت متأخرة في ليبيا، استطاعت مع دخولنا الألفية الثانية أم تكون الجنس الأدبي الذي يعبر عن المجتمع الليبي، بعد أن تأخرت القصة القصيرة -قليلاً-، وتجربة الرواية في ليبيا، وخاصة على أيدي الكتاب الشباب مميزة ومرتبطة بشكل كبير بمجتمعها، وأكثر جرأة في التعبير عن السكوت عنه، بعد أن تأخر الجيل السباق من الروائيين عن ذلك، وانفتاح هؤلاء الكتاب الشباب على فضاء أوسع من خلال الشبكة العنكبوتية، وأزعم إن سبب البحث عن الرواية الليبية عربياً، هو رغبة الآخر في التعرف إلى ليبيا، أو المجتمع الليبي؛ سياسياً وثقافياً، والرواية كأدب هي القادرة على أن تكون هذا المدخل، فهي قادرة على احتواء الأجناس الإبداعية الأخرى، وإعادة إنتاج الواقع في شكل إبداعي مميز!
ختاماً، من المهم إدراك إنه لا يمكن القول بوظيفة واحدة للأدب، من خلال فرض الرأي، لأن هذا لن يكون مجدياً ومثرياً للحياة الثقافية في ليبيا، إنما قبول الاختلاف وتقديم خطاب نقدي يعزز لا يرفض.