أنا على قناعة تامة، بأن للمثقف دور مهم في المجتمع، وأن درجة الوعي المجتمعي، تحدده مجموعة من الأدوات والمعايير، من أهمها ما يقدمه المثقف للمجتمع، وهذا يفرض لتكون العلاقة صحيحة، أن يكون طرفي المعادلة متساويان، وهذا لا يعني الكم، أو الحج، بقدر ما يعني تكافئ الطرفين تفاعلا وعطاء.
بالتالي؛ فإن العلاقة، معادلة عطاء متبادل، أحد طرفيها المجتمع الذي يستجيب لفكر المثقف ويتفاعل مع إبداعه وإنتاجه الثقافي، ويمثل المثقف الطرف الثاني الذي يقوم على القراءة والرصد والإنتاج.
وككل معادلة، هناك حد ثابت، وأسميه هنا، النظام، والذي يحدد مسار ومستوى العلاقة بين طرفي المعادلة؛ المثقف والمجتمع.
والنظام هنا، تمثله مجموعة النظم والقوانين التي تعتمدها الدولة، على جميع المستويات. فالرقابة على المطبوعات، أو تقييد العمل الإعلامي وتوجيهه، هي أحد النظم والقوانين، كطرف ثابت في المعادلة، تؤثر بشكل كبير ومباشر على صحة العلاقة، وتكافؤ طرفيها.
في ليبيا، كان نظام القذافي، قد أوجد في هذه المعادلة حدا ثابتا كبيرا، ونجح في جعله متغيرا، يلبي حاجات السلطة وينفذ أفكارها.
الأمر الذي أربك العلاقة وخرج بالمعادلة عن الهدف المفترض لها. فعاش المثقف معزولا عن المجتمع، ومارس المجتمع حياته بدون دعم معرفي وثقافي.
هذه العزلة، أبعدت المثقف عن دوره وقزمته، ورسمت حدودا لنشاطه الثقافي، محفوفا بالحرس والمراقبين، وضربت المجتمع في رموزه الثقافية، التي من مهامها التنوير واستشراف المستقبل، للنهوض به. لعل أبسط مثال هو غياب المثقف الليبي، كاسم من ذاكرة المواطن، إن لم نقل عدم وجوده. وكنتيجة؛ وجود خلل ثقافي كبير يعانيه المجتمع الليبي، كان يمكن للمثقف أن يساهم في تصحيحه، والرقي به.
وهنا أريد أن أسجل استحواذ هذا الحد، أو النظام، على كامل المعادلة، وتفرده بالعلاقة، ليقوم مقام المثقف، ويطلع بدوره، ويوهم المجتمع بمثاليته، ونجاحه، وقد وجد من المثقفين، للأسف، من يقوم على هذا العمل، ليتحول إلى بوق يصيح بما ينفخ فيه!
لذا سيكون من الصعب على المثقف، الليبي، أن يجد له دورا في هذه المرحلة الحرجة، أو أن يقوم بدوره التنويري للسبب بسيط؟ أنه لم يمارس هذا الدور لأكثر من أربعين عاما، إلا من خلال سيطرة منظومة الدولة، التي تحولت الآن إلى وحدات أصغر استطاعت استقطاب البعض، تحولوا إلى أبواق، والبعض استمر في عزلته، وهروبه من المشهد، واكتفى البقية بشرف المحاولة.
على المثقف الليبي، أن يكون قادرا على العمل خارج النظام، وأن يبتكر الأدوات والسبل للعودة بالمعادلة إلى وضعها الصحيح، حيث طرفيها؛ المثقف والمجتمع، والحد الثابت مجموعة ضوبط لتنظيم العلاقة، وضمان أعلى مستويات العطاء والتفاعل بين الطرفين. على سبيل المثال يمكن الاستفادة مما توفرت منصات التواصل من براح للتواصل والتفاعل لممارسة هذا الدور، وإعادة بناء العلاقة في شكلها الصحيح. وهنا من الواجب تقديم الشكر لعديد المشاريع الثقافية التي أعادت إحياء الكثير من رموزنا الثقافية، ودورها الثقافي الذي كان مغيبا، وبناء جسور معرفية والمجتمع، وتحريك بحيرة الأسئلة الراكدة، ومسح الغبار عن ذاكرتنا الثقافية.
إن الهدف الذي لابد للمثقف في ليبيا الاطلاع به، والتركيز عليه، هو بناء علاقة قوية بالمجتمع، بما يحقق وجوده وحضوره، وتأكيد دوره، من باب الحوار وتبادل الأفكار والخبرات وتداولها، بدل الدخول من باب التنظير الذي سيعظم من حجم الهوة بينهما.
إن عودة المثقف لدوره الصحيح، هي عودة المجتمع لمسار النهضة.
____________________________________
نشر بالعدد الثامن (مجلة الليبي) أغسطس 2019.