قراءة قديمة للواقع

عين

قراءة قديمة للواقع

غلاف كتاب_الشمس وحد السكين

لأول مرة -حتى في أيام الدراسة- أجلس لأربع ساعاتٍ متواصلة إلى كتاب، ولا يعني ذلك أني لا أقرأ أو أني مَـلُـول، والصحيح أني أحب القراءة المتأنية، ولا ينافس هذا الكتاب إلا رواية (البؤساء- لـ فيكتور هيجو)، التي رغم امتحانات الثانوية العامة، لم أنقطع عن قراءتها كاملة بمعدلٍ فاق الخمس ساعات أو أقل يومياً… ونجـحت.

“قراءة قديمة للواقع” متابعة القراءة

قراءة قديمة للواقع

ليبيات 4.. زردة (المشاركة الليبية في معرض القاهرة الدولي للكتاب)

مشهد أبيض وأسود

أكثر ما استفدته من طبيعة عملي بأحد الشركات، هو بعدي عن الوسط الثقافي، الذي أفادني كثيراً وعلى أكثر من صعيد (شخصي ومعرفي)، خاصة وإن الوسط لم يكن بذلك الذي كنت اتمنى –أتخيل-، إلا من بعض الأسماء التي آمنت بالإبداع. وأذكر أنَّا كمجموعة شابة ضمن أعضاء رابطة الأدباء كيف حاول البعض استمالتنا للتصويت لمرشحهم لأمانة الرابطة، أو كيف كنا نتلقى التعليقات عن ضعف تجربتنا دون أن تردف هذه التعليقات بالنصح أو النقد البناء (بات ليلة في الدباغ.. صبح قربة). وغير ذلك الكثير من الأمور التنظيمية التي دعتني للابتعاد عن الأنشطة الثقافية، كالارتجالية، واعتماد أسلوبُ (العوالة/ واسمع تعال/ وما تبيش عزومة)، أسماء بعينها موجودة في كل نشط، برامج لابد أن تكون بذات الشكل، ومن أغرب ما عايشته يوم أن صدرت مجموعة الصديق “غازي القبلاوي” القصصية (إلى متى؟) وحملها الشاعر “……..” بين يديه وقال: شوفوا كاتب اسمه فوق العنوان شن يحساب روحه.

ثم قام برمي الكتاب على الطاولة، وأنا متأكد إنه لم يقرأه حتى لحظة كتابتي هذه الكلمات.

“ليبيات 4.. زردة (المشاركة الليبية في معرض القاهرة الدولي للكتاب)” متابعة القراءة

ليبيات 4.. زردة (المشاركة الليبية في معرض القاهرة الدولي للكتاب)

ثقافة الهدم

1

لقد تقصدت ألا أكتب حول هذا الموضوع، لحظة تفاعله على مشهد الأحداث في ليبيا، حتى لا تكون كتابتي انفعالية، وصورة مباشرة لتأثير اللحظة، كوني كنت على الجانب الأخر من الفكرة. ورغم أني عبرت من خلال مدونتي* عن وجهة نظري بطريقة مباشرة وصريحة تبرّأت فيها مما حدث، إلا أني هنا سأحاول مناقشة الفكرة؛ خاصة بعد مجموعة التعليقات التي وصلت.

2

تعتمد الثقافة –ثقافة أي أمة أو مجتمع- على مبدأ التواصل لا الانقطاع، والبناء لا الهدم. بمعنى، التواصل الثقافي في داخل النسيج الثقافي ذاته أو مع ما يوازيه أو ما يقابله من ثقافات، بالتالي يقوم على توسعة قاعدته المعرفية، لبناء قواعد ثقافية جديدة ومبتكرة لتطوير آليات تعايشه. وعلى هذا المبدأ قامت الدولة الإسلامية الكبرى والتي امتد أثرها الثقافي خارج حدود ممالكها لتأسر الجميع وتشدهم إليها.

الثقافة تقبل لا ترفض، وتجاولا لا تقصي. وهذا يعني الحوار وقبول الأخر نداً دون أي افتراضات مسبقة، ولا يمكن لهذا الحوار ليكون إلا بالتجاور. ويقدم التاريخ الإسلامي الكثير من النماذج لهذا التجاور والحوار الندّي القائم على فهم ثقافة الآخر واستيعابها.

هذا في علاقة الإسلام بالثقافات الأخرى، أما في ذات المجتمع الإسلامي، فالإسلام لم ينكر أي ممارسة ثقافية أو معرفة، إلا فيما يتعارض مع العقيدة، أما ما يتعارض مع الشريعة من ممارسات فقد تعامل معها من مبدأ (إنما الدين النصيحة)، التي تعتمد بيان الحقيقة بالحوار والإقناع، فالدين الإسلامي يُكبر من شأن العقل والتفكير لإدراكه ما لهما من دور في قبول الأفكار الجديدة.

3

بعد هذه المقدمة، أتجه مباشرة للموضوع الأساسي لهذا المقال، وهو ما حدث خلال الفترة الماضية من هدم لبعض الأضرحة والقبور الخاصة بالأولياء، وسأحاول أن أقصد النقاط التي أريدها بطريقة مباشرة.

يقول الإمام “الشافعي” رحمه الله (ما حاججت عالماً إلا غلبته، وما حاججني جاهل إلا غلبني)، والقصد إن الجاهل لفقده الحجة وأسلوب الإقناع العلمي والمعرفة يصر على جهله، دون تقبل لأي فكرة خارج ما يؤمن به، أما العالم، فعلمه يمكنه من الاستنتاج والوصول للحقيقة، والتي ينحاز إليها بغض النظر عمن وصل أولاً. هذه القاعدة مهمة، خاصة في الأمور الخلافية، التي تُقلب على أكثر من وجه، حيث من حق كل طرف القول بما يرى، داعماً رأيه بما يستطيع من أسانيد وحجج، دون أن يفرضها على الطرف الآخر، أو من هم خارج دائرة العلم. ومسألة هدم القبور والأضرحة، من المسائل الخلافية، بالتالي لا يحق لطرف ما أن يقوم باستغلال ظرفٍ ما، وباستخدام القوة لتطبيق ما يراه، دون أي وجه حق شرعي –ديني أو وضعي-، فحتى من قال بإزالة القبور والأضرحة أكد على ضرورة أن تزال بيد ولي الأمر، لا أن يترك الأمر مفتوحاً مخافة الفتنة.

وما حدث يضعنا أمام ثلاث مفاصل أساسية، الأول: هو الخروج دون شرعيّة (انتهاء حرمة القانون)، الثاني: فرض وجهة نظر بعينها (إقصاء الطرف الآخر)، الثالث: استخدام القوة للتطبيق (قهر الآخر). وهذه المفاصل تبين مقدار ما ارتكب من انتهاكات بحق الآخر، سواء كان هذا الآخر فرد أو مجموعة، مجتمع أو دولة. وهذه المفاصل تجتمع في كونها تتفق في هدمها لمبدأ الحوار والتواصل.

4

استندت أكثر دفاعات الهدم، على اتخاذ الناس (العامة كما في تعبير من قام بالهدم)، من هذه القبور والأضرحة مزارات وأماكن للتقرب للأولياء بالذكر والذبح، وأيضاً أماكن لدفن السحر وافتعال أعمال الدجل والبدع، وهو مالا يقره الشّرعُ الحكيم، ولا تتقبله العقول السليمة.

والمسلم العاقل، يدرك أن هذه الأعمال لا تمت للدين بأي صلة، إنما هي نتيجة تراكمات من سنوات الجهل والعجز والعوز، الذي ألجأ ضعاف الإيمان إلى هذه الأضرحة للتقرب وطلب الحاجات، في غياب التوعية، والدعوة الصحيحة لدين الله؛ وهو العمل الذي غفل الكثير عنه، مكتفين بدروس الفقه في المساجد والخلوات والحلقات، أو دروس عذاب القبر وأهوال القيامة، دون الخروج للدعوة وتوعية العباد، وبصيرهم أمور دينهم خاصة ما يتعلق بالعقيدة والمعاملات.

فكما يؤكد “نيوتن” أنه (لكل فعل رد فعل؛ مساوٍ له في المقادر، ومضاد له في الاتجاه)، فإن هدم القبور والأضرحة وتفجيرها (كفعل)، سيكون نتيجته التسمك بها أكثر حتى في غيابها (كرد فعل)، بذات المقدار من قوة تطبيق الفعل، وفي الاتجاه الذي يعاكس نية الهدم (لله)، ناحية تحويلها –أي الأضرحة والقبور- إلى أساطير وملاحم، وهو ما يظل راسخاً أكثر من الفعل ذاته، كونه النتيجة النهائية والمتحققة، فالفعل ينتهي ويبقى رد الفعل ليحقق النتيجة. خاصة وإن هذه المقامات لم تقم لهذا الغرض في أساسها، إنما هي قور صحابي جليل، أو مرابط نذر نفسه لله، أو عالمٍ متفقه، وهي بعيداً عن هذا كله، تمثل قيمه تاريخية وثقافية لتاريخ البلاد، وهدمها بهذا الشكل إنما يعمل على محوها من ذاكرة المجتمع واختفائها تدريجياً منه، وبالتالي لا تفقد البلاد معلماً بقدر فقدها ذكرى شخصية ساهمت في كتابة تاريخها.

5

في ظني إن أسلوب الدعوة هو الأسلوب الصحيح لتغيير الكثير من الثقافات، وتغيير الكثير من الممارسات وتوجيهها بالاتجاه الصحيح، بحيث يتم بناء علاقة على أساس التواصل والحوار، وفتح قناة معرفية هدفها إظهار الحقائق بنية الإقناع، حتى يكون فعل الترك والتخلي عن الممارسات غير السليمة الممارسة عند القبور والأضرحة نابعاً من الإنسان ذاته، بالتالي تتحقق الفائدة أكثر، ويكون المجتمع في عمومه واعياً بحقيقة ما يمارس. ليعود التواصل والحوار ممارسة يومية ترقى بالمجتمع. وبالتالي يتم الحفاظ على هذه الأماكن كمعالم، مفرغة من الممارسات الخاطئة.

ثقافة الهدم لا تولد إلا هدماً مثله. كأحجار الدومينو، يكفي أسقاط الأولى لينتهي الأمر بها جميعاً ساقطة. ومهما كان الشكل الذي اتخذته، إلا إنه في حقيقته هدم، لا شيء، لا فائدة، ولا غاية مرتجاة.

_____________

* يمكن مراجعة الرابطين التاليين: (http://mellakheer.ramez-enwesri.com/?p=205) و(http://mellakheer.ramez-enwesri.com/?p=214)

نشر بمجلة الكاف الإلكترونية

ثقافة الهدم

الخـطـرُ الأمـازيـغـي

مصطلح (الأمازيغ) من المصطلحات التي تعرفت إليها مؤخراً، أو لنقل في الجزء الأول من حياتي الثقافية، وبالتحديد في بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث كنت –حتى وقتها- أستخدم التعريف المحلي المقابل للمصطلح (الجبالية)*.

(الجبالية) كانوا جيراننا لسنوات طويلة، قبل أن يتركوا الحي للسكن إلى آخر، ويجيئ غيرهم، ولا زلت أذكر كيف ودعناهم وودعونا بالدموع، ومازلنا على تواصل. تربيت في بيتهم، أكلت من خبزهم وتذوقت ملحهم، وكنت أحب البيض المقلي الذي كانت جارتنا –الله يذكرها بالخير، هي جدة الآن- تعده على طريقتها الخاصة. لعبنا سوياً، تخاصمنا، تصالحنا، كنا صغاراً، وكان الفرق الوحيد هي اللغة التي يتحدثونها، والتي استطعت التقاط العديد من مفرداتها، درجة فهمي وتحدثي بها قليلاً.

في الجامعة جمعتني قوائم التنسيب بزميل دراسة، درس هو الميكانيكا ودرستُ الطيران. في استراحاتنا كنّا نتحدث كثيراً في هموم الثقافة، كان يقرأ ما كنت أنشره على صفحات (الطالب)**، ويشاكسني فيه معلقاً وغامزاً. تعرفتُ من خلاله للشعر الجبالي، والأغاني الجبالية، كان يغنيها بصوت رخيم، وعند الانتهاء يقوم بشرح البيت. منه عرفت مصطلح (الأمازيغ)، وكيف أنهم ممنوعون –كمجتمع- من دراسة وتعليم لغتهم، ومن ممارسة عاداتهم وطقوسهم الثقافية والاجتماعية بشكل علني، فشكراً يا “طارق”.

 

كنت أسمع من يقول: إنهم يريدون أن ينفصلوا على ليبيا!!!. ومن يقول: إنهم يريدون الانضمام للجزائر؟!!!. ومن الجانب الآخر: أنتم اللي جيتونا وسكنتوا في أرضنا!!!. وأسمعُ وأسمع، وأسمع.

 

حاولت البحث كثيراً فيما يتعلق بالأمازيغية تاريخياً وثقافياً، لمعرفة الخطر الكبير الذي يجعل الدولة –نظام الطاغية- تقوم بمحاربة أي محاولة للتعريف بهم كقيمة ثقافية وتاريخية، حد منعهم من استخدام اسمائهم التراثية أو التي تعرف في الثقافة واللغة الأمازيغية. هل هم على هذا القدر من الخطر؟، لتوجه الدولة آلتها لمحاولة إثبات الأصل العربي لهم، هل نحتاج هذا الإثبات؟ وهل يحتاجونه؟، وهل يضيف حال تحققه شيئاً؟. بمعنى، إلى أين نريد الوصول؟ هل هو بحث في القصور المعرفي، أو الثقافي؟ أو تشكيك في هوية؟. ولأني أثق في الكتابة –المعرفة- الكتفيت بما تحقق في داخلي واستيقن.

 

أعتقد إن أصل الخوف –خوف نظام الطاغية-، هو استقلال الأمازيغ –كمجتمع- تاريخياً وثقافياً عن المحيط الذي يعيشه جغرافياً (المكان)، وبذات القدر من الانصهار في ثقافة من يجاوره –من مجتمعات-. بالتالي لا يمكن العبث في هذا البعد التاريخي والثقافي، إلا فيما يتماس مع الخط العام للمجتمع في مجمله، أي التاريخ المشترك للمنطقة والثقافة المشتركة للمجتمع. الأمر الذي جعل من الصعب على نظام الطاغية العبث في الهوية الأمازيغية، أو التشكيك فيها، كما حدث في الكثير من مكونات تاريخ المجتمع الليبي بتغييب فترات زمنية، وإظهار أخرى، أو خلق حوادث تاريخية لأشخاص لم يكن لهم من دور، أو تشويه صور شخصيات أخرى، خاصة فيما يخص تاريخ الجهاد الليبي، فكان من الضروري إقصاؤها.

 

إن حكاية الخطر الأمازيغي –المزعوم-، مثلها مثل الكثير من الحكايات التي روج لها نظام الطاغية، بغاية تجهيل المجتمع وإغراقه في دوامة من الخوف والقلق من الجار الساكن بيننا، الذي ينتظر لحظة الغفلة لغرز سكينه في ظهرنا، مما أوجد حالة جفوة كان نتيجتها انحلال النسيج الليبي، والذي عادت ثورة 17 فبراير لرأبه، في تلاحم الثوار يداً واحدة من أجل ليبيا. وإلا لكنا كسبنا بعداً ثقافياً وتاريخياً لمجتمعنا، الذي يزداد غناه بما يقدمه من تشكيله منوعة من ثقافات سكانه، من الشمال للجنوب، ومن الشرق للغرب، ثقافة الساحل وثقافة الصحراء، ثقافة الحضر وثقافة النجوع، ثقافة السهل وثقافة الجبل. إن هذه الثنائيات أو المجموعات الثقافية يمكن أن تكون مصدراً اقتصادياً مهماً لو عرفنا كيف نقدم هذا الغنى المعرفي ونستثمره. بدل أن يحبسنا نظام طاغ، كل همه مزيداً من إحكام القبضة الأمنية، لطمس هوية وإقصاء لغة وثقافة، هي موجودة كمفردات وعادات فيما نتداوله من حديثنا اليومي ونسيج المجتمع الليبي.

 

وهنا أطالب –كمثقف- بفتح التعليم باللغة الأم، لكل المجتمعات التي تتمتع بهوية لغوية خاصة، واستخدام اللغة إعلامياً للتواصل، والتعريف أكثر بما تستطيعه هذه اللغات من قدرة على التحميل المعرفي والإبداعي. مما يساعد أكثر على دمج الثقافات فيما بينها وتفاعلها. وهذا لا يعني الاعتراف باللغة، بقدر ما يعني الاعتراف بهوية مكونة لأحد خيوط النسيج الليبي المميز في تنوع ألوانه وجودة غزله وتماسكه. لنكون كسبنا رهان ليبيا الجديدة.

________________________

* يعود سبب التسمية بـ(الجبالية) لاتخاذهم جبال نفوسة مستقراً لهم، وهي امتداد لسلسة جبال أطلس، وهم يعرفون بأمازيغ الجبل. بينما يطلق على أمازيغ الساحل (الـزّواريّة) نسبة لمدينة زوارة التي يسكنونها.

** الطالب، صحيفة كانت تصدر عن اتحاد الطلبة، وكنت أنشر على صفحاتها نصوصي الشعرية والقصصية، وبعض المقالات، من بداية 1991، حتى تخرجي من الجامعة.

 

 

المقال منشور بمجلة الكاف

الخـطـرُ الأمـازيـغـي

هل أنا كافر؟

الأسبوع الماضي ساقتني الأقدار لأكون رفيقاً أحد الأصدقاء في واجب عزاء. كانت البداية من مهاتفة لأخباري بموعد وصوله، وحال صعودي السيارة أخبرني أنه سيمر بصديق آخر، كنت قد التقيته مرة أو اثنتين من قبل، وهو كما أُخبرت عنه (طالب علمٍ شرعي).

كان حديثنا ينصب حول الانتخابات وخاصة المرتشحين لانتخابات المجلس الوطني، فصورهم موزعة في الشوارع وعند إشارات المرور، كل حسب منطقته. إشارة المرور بطيئة، منحتنا فرصة قراءة الأسماء والمؤهلات والتمعن في الصور، والتعليق عليها، وإلا (ما ناش ليبيين).

وصلنا بيته، لنجده واقفاً عند المدخل الرئيسي للبيت، سلم وصعد السيارة. وبعد السلام والسؤال على الأهل، طلب من صديقي فتح الراديو على قناة 105 إف=إم. وكان على البث درس ديني. سأله صديقي:

– من الشيخ؟

– الشيخ “مقبل”.

كان حديث الشيخ حول حل الانتخابات وجواز الانتخابات، استمعت للدرس، حتى أن وصل صاحب الدرس إلى: (ففتوى الشيخ بن باز، بجواز الانتخابات باطلة، وفتوى الشيخ بن العثيمين باطلة، وفتوى الشيخ الألباني باطلة)، واستمر يستعرض بطلان الفتاوى حتى قوله: (ولا بد إنهم أرسلوا للفتوى، رجلاً في مظهر أهل السنة، لحيته إلى سرته، وجعل يقول للشيخ، يا شيخ إن لم ندخل الانتخابات فإن الشيوعيين والماركسيين، سيكون لهم السبق، ولا يعود للدين من مكان).

التفت إلى صديقي، فابتسم في وجهي، ولم ينبس ببنت شفة، كان الشيخ في محاضرته أو درسه يشن هجمة قوبة على الانتخابات ومن يدعو لها وإلى الديمقراطية، وهو يقول إنه لا شيء في الكتاب والسنة يقول بالانتخابات وإنها دعاوى تضليل ليصل لفتواه (فكل من قال بالديمقراطية والانتخابات هو كافر)، عندها وجدتني أقول:

– لله الأمر من قبل ومن بعد. إنا لله وإنا إليه راجون.

انتبه صديقي إلي، لكنا وصلنا محل العزاء، وكانت صلاة العشاء قائمة، فأسرعنا باللحاق بها، وصلينا في ذات الصف. ولا أعرف كيف نسيت موضوع الدرس والفتوى، ربما وجب العزاء، وحديث الأنس الذي دار. حتى صعودنا من جديد السيارة وسؤال صاحبنا:

– هل القناة مازالت موجودة.

وانطلق صوت الشيخ “مقبل” من جديد، بدرس آخر لحظتها التفتت إلى الخلف:

– عفواً، ما اسم هذه القناة.

فرد:

– لا، إنها ميزة بجهازي النقال تمكنه من البث عبر جهاز الراديو.

لحظتها قفزت إلى قمة منحنى الغضب (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأصمت، تركتهما في حديثهما، وغالبت نفسي، حتى وصوله بيته، ونزوله. لأنفس عن نفسي قليلاً بالحديث مع صديقي، بفاجعتي بما سمعت وتطرف البعض لهذا الحد. ألا يكفي أنهم دعوا إلى التزام البيوت (اتقاءً للفتنة) و(عدم الخروج على ولي الأمر) حتى لو ركب ظهري. وها هم اليوم يقولون بحرمة الانتخاب، وأن من يقول بها وبالديمقراطية كافر:

– والله عجيب، كيف صلى إلى جانبي، أم إن صلاتي لا تقدم و تؤخر، أم أني لا شيء.

حاول صديقي تهدئتي، وأن ما حدث ما هي إلا محاولة من صاحبنا لتوعيتي أو إعلامي برأي الدين:

– كانت نيته أن يعرض عليك وجهة نظره.

– أي وجهة نظر هذه، التي يعلن فيها كفري، حكماً قاطعاً بطردي من رحمة الله، وأن جهنم مصيري ومآلي. فإما رضيت بما يقول وإلا ناراً ذات لهب.. لله الأمر من قبل ومن بعد.

كنت قبل فترة قد خضت في حديث معه، حول رأيي الشخصي حول الجماعات الدينية، من الإخوان إلى السلفية بمختلف مرجعياتها، وأنهم كلهم خير وبركة، وأني لا أرفض إلا من يناطح ويجبرني على الأخذ برأيه، خاصة في المسائل الخلافية، فالخلاف رحمة وسِعة، وإلا لأستمر نزول الأنبياء والرسل لتصحيح ضلالات الأمم. ألم يختم عز وجل رسالته التي حملها آخر أنبيائه الكرام بقوله: (..اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا../ المائدة – آية 3)، إنه في هذا الإعلان يؤكد أن رسالة السماء قد توقف، لتستمر رسالة الأرض، رسالتنا، الأمانة التي حملها الإنسان وارتضاها (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَىٰ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا/ الأحزاب – آية 72)، بما فيها من مسؤولية وتبعات. وعن نفسي لن أسمح لأحد بأن يرسم لي طريقي ونهجي، أو أن يقوم بدور الرقيب الموجه، أرفض وبقوة أي تدخل في علاقتي بربي الأعلى، ولن أرضى بأن تُـفرض علي وصايا وشروط، تعبر عن وجهة نظر أصحابها واجتهادهم، فلكل مجتهد نصيب (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب، فله أجر واحد/ حديث شريف)، لن أرفعهم إلى مراتب الأنبياء، أو أن يتحولوا إلى أيقونات، يؤخذ عنها ولا يرد (كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر/ الإمام مالك بن أنس)، ألم يراجع “الإمام مالك بن أنس” في أكثر من مسألة أجاب عليها بـ(لا أدري). ومن تلك الليلة، وأنا أعيد السؤال، وسأظل: هل أنا كافر؟.

هل أنا كافر؟