خلود الفلاح
الحراك الشعبي الذي شهدته دولنا العربية كان له تأثيره في حركة المجتمع، وكان الأدب واحدا من المجالات التي تأثّرت بثورات الربيع العربيّ، وإن كان هذا التأثير ما يزال في بداياته حتّى أن المفردة الإبداعية لم تتشكل فيه كفاية، إلا أن الآفاق التعبيرية في القول الشعري الليبي بعد الثورة بدأت تتنفس أكسجينها الخاص. وفي هذا الشأن، حاورنا مجموعة من الشعراء الليبيين من مختلف الأعمار والتجارب الشعرية حتى نقف على بعض مظاهر التأثّر.
*رامز النويصري: إعادة إنتاج القيم في رموز وأيقونات
لا نستطيع الجزم بتأثير ثورة 17 فبراير المباشر في الأدب الليبي، بمعنى أنه يمكننا لمس هذا الأثر في صور وإحالات ورموز، فطبيعة الإنتاج الأدبي تعتمد على إعادة إنتاج الحالة أو اللحظة في صورة جمالية، وهذا ما يجعل المبدع يحتاج الي كثيرمن الوقت ليعيشها أو لنقل لمعايشتها بغية الوصول لنصه.
فالنص الحديث يعتمد على الرصد وبناء الأنساق الشعرية. فالحرية –على سبيل المثال- كقيمة إنسانية كبرى، لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال معايشتها، التي لا تأتي في يوم أو شهر. فالشاعر –أو المبدع- يبحث دائماً عن الإبهار، من خلال ما يستطيعه من بحث عن القيم التي يمكنه إعادة إنتاجها في رموز وأيقونات، ذات مرجعيات ثقافية.
الوجه الثاني للمسألة، هو الحرية بمعنى الانطلاق في التعبير، ونعني رفع سقف حريته لرصد تجارب إبداعية جديدة، مختلفة، وموضوعات مسكوتٌ عنها، تفتح الباب على مستويات إبداع ظلت حبيسة لعهود.
والمميز في المشهد الإبداعي الليبي –الآن، بعد 17 فبراير- هو القصة القصيرة، فهذا الجنس الإبداعي من خلال ما نشر من نصوص استطاع بمرونة رصد الحراك الليبي، ومقاربته، وملامسة بعض الكتاب تفصيلات حكائية. في الشعر، نقرأ الصورة على جزأين، في الأول يأتي النص التقليدي في قدرته على التعبير المباشر للحدث أو القيمة، وفي الثاني، نطالع بعض النصوص الحديثة التي تحاول موازاة الحدث أو القيمة من خلال التعويل على الرصيد العام، وتشكيل صور شعرية وتراكيب جديدة.
في ظني أنه علينا الانتظار قليلاً لقراءة نص مغاير يكون ابنًا شرعياً لثورة 17 فبراير.
*عبد الباسط ابوبكر محمد: هل تصنع الثورات شعراءها؟
أعتقد أن الأفق المفتوح الذي منحته الثورة للجميع، انعكس على الشعراء من ناحيتين: شعراء كانوا يحلمون بالتغيير ويرسمون بنصوصهم الضوء الذي لم يره في نهاية النفق غيرهم، وعندما يأتي “الضوء” يبهرون من هذا الكيان الجديد “الثورة” يقفون على مسافة وسطية بين المشاركة والامتناع، هل هي الثورة التي يحلمون بها ،أم أنها كائن داجن لا علاقة لهم به؟.
وشعراء جدد هم نتاج الثورة، وأقلامها التي واكبتها من اليوم الأول فعلاً وكتابة، شعراء عايشوا لحظة تحقق الحلم من اللحظات الأولى، وحفروا مسار الثورة بقوة وثقة.
القصيدة قبل الثورة كانت تحت” عين الرقيب”، الرقيب الذي صنعته الدولة الأمنية ، الأمر الذي جعل القصيدة تناور الكثير من العقبات، وتتنقل وسط حقول هائلة من الألغام وتفرز أدب مقاومة حقيقي ، حيث استطاعت أن تمرر همومها وتقول كلمتها رغم كل شيء، قصيدة كانت تبحث عن أفق متسع للتعبير، فرسمت ببحثها هذا كيانها الجميل.
القصيدة بعد الثورة، هي بنت أصيلة للحرية صنعت نفسها بثقة الثورة، وتماهت مع التغيير، وأفرزت نصوصها الحقيقية تحت مظلة الأفق المفتوح، الثورة صنعت شعراء حقيقيين.
الشعراء ” في الحالتين” أمام مفترق الطرق، عليهم أن يعايشوا التغيير، على الحالة الأولى أن تستوعب التغيير، وعلى الثانية أن لا تتوقف عند قصيدة الثورة، فالشعر حياة متشظية متنوعة ومستمرة، على القصيدة أن تشكل أفقها الحر المفتوح، أن تنتج نصوصها الجديدة التي تحتفي بالحياة والغد والحلم.
* سالم العوكلي: في تجربتي السابقة أتحاشى التنظير للموت
الشعر يسكت لحظة الأحداث الكبيرة، خصوصا القصيدة الحديثة، التي تحتاج إلى مسافة بينها وبين الحدث لتقف على شحناته الإنسانية وشيمه الخالدة، وإلا فإنها ستكون قصيدة مناسبة أو تنحو بالشعر تجاه التحريض كتقليد قديم كان من مسؤولية الشاعر في غياب المؤسسة الإعلامية.
الشعر الحديث يستعيد كينونته الأصيلة. ربما الشاعر لا تفاجئه التحولات الكبرى لأنه بطبيعته راصد لتلك التحولات الصغيرة التي تفضي إليها.
بعد ثورة فبراير في ليبيا لم أكتب إلا قصيدة واحدة هي: رؤيا الشهيد. كانت تلح عليّ كي أعتذر عبرها من اللغة ومن المفهوم ذي الحكم المسبق على المفردة بعد أن تستعيد سحرها وجماليتها.
كنت في تجربتي السابقة أتحاشى المفردات التي توحي بالعنف أو بالتنظير للموت في قصيدتي، مفردات مثل الجهاد أو الشهيد أو غيرها، حين زرت يوم 17 فبراير 2011 جثامين أول خمس شهداء في مدينتي درنة، اكتشفت تلك اللحظة ،وأنا أتأمل ملامحهم، مفهوما مختلفا لمفردة الشهيد.
ورغم الحزن العميق كان ثمة جمال يتسرب من ملامحهم لأنهم يموتون من أجل قيمة إنسانية عظيمة وهي الحرية، شباب يرتدون أحدث الموضات، شعورهم مسرحة بطريقة رائعة، في عيونهم نصف المفتوحة أحلام كثيرة مازالت تلمع .. كتبت قصيدتي لأعتذر منهم ومن سحر الكلمات حين تستعيد ثراءها وجمالها بعدما طالها التلوث.
أما مفهوم الحرية في القول الشعري، فهو لصيق بالقصيدة وهو سؤالها الدائم لأن الطغيان ليس سياسيا فقط لكنه اجتماعي وديني لأنه من الممكن أن يتولد عن الحضارة نفسها والمؤسسة التي تحوّل الكائن الإنساني إلى آلة أو رقم حتى في المجتمعات الحرة والديمقراطية، الشعر شرطه الأخلاقي الوحيد أن يتساءل بشأن الكائن ومصير الإنسان دائما.
*عمر الكدي: ازدهار النثر وقوة الشعر
في تقديري سيزدهر النثر في ليبيا أكثر من الشعر، لأن المجتمع في حاجة لرواية ذاته خلال العقود الأربعة المنصرمة التي منع فيها التعبير بشدة، وأعتقد أن الشعر قام بمهمته بكل نجاح خلال المرحلة الماضية، عندما كان يتكئ عليه المبدعون أكثر من النثر، لأن لديه القدرة على الإيماءة والإشارة من بعيد بسبب قدرته على استخدام الفنون البلاغية مثل التورية والاستعارة.
*فرج أبو شينة: هامش الحرية لدى الشاعر يساوي المتن
يقول هايدجر ” في القول يكمن الوجود”. أيّ قول يعنيه هايدجر؟ وأي وجود؟ في هيمنة كهذه، حيث الملك أو الرئيس هو الإطار الوجودي المحض.. لا قول، ولا وجود في كنف السلطة الغاشمة. إذا أردت أن تقول فقل نعم أو اصمت. ولكن الشاعر الحقيقي لا يقوى على السكوت المتخاذل. يشعر بمغص في حنجرته.. ورغبة حقيقية في تقيؤ الحياة.
في ظل النظام السابق كان الشاعر يتنفس زفيره. هم قلّة من تجرأوا على استنشاق الهواء النقي الخالي من الهيمنة لكنهم دفعوا الثمن باهظا. سجن أبى سليم يشهد على ذلك.
هامش الحرية لدى الشاعر يساوي المتن. وحرية القول، ليس فيما يكتبه فقط.إنما فيما يراه من إصلاحات سياسية ومن تحولات معرفية. الشاعر الذي بلا موقف هو بلا ظل.
كذلك رئة الشاعر في الأصل تستوعب كلّ أكسجينات السلطة الطريّ منها والمختنق. لديه مقدرة على التحايل والقول. لديه رئة احتياطية يوفق أحيانا في استعمالها. وأحايين أخرى يفشل. طبعا، تتوقف على مقدرته في استخدام الرمز كقناع وكمكروفون. كثيرون استطاعوا استخدامه. قالوا قولهم.في حضور الشمس. ولم يهابوا تهديدات العتمة.
الآن الأمر اختلف، وعلى الشاعر أن يختلف هو الآخر.. لا أن يتخلّف، يختلف في نظرته للواقع..في نظرته للحياة الجديدة البريئة من السياجات والأسلاك الشائكة والأسوار العالية السميكة.كذلك – وهذا مهم – أن يعيد النظر في قوله لأنه ليس كما كان. “إما خائفا أو خجولا أو مرتبكا أو متواطئا”. الدولة الحديثة المرتقبة سوف تكون رئة تسمح للجميع بالتنفس.
هامش القول اتسع بالفعل ، في الصحافة كثيرون من نقدوا المجلس الانتقالي في بعض سياساته الارتجالية أحيانا.
وفي الفيس بوك”الهامش الأكثر اتساعا للقول” نقرأ الكثير من الانتقادات حول المجلس الانتقالي وأعضائه. هذه سابقة جميلة لم تحدث منذ سنوات عدة في ظل نظام واحد ومهيمن.
بالفعل علينا أن نعيد النظر في أدواتنا الصوتية. أن نقول ما يجب قوله. لا أن نستغل هذه الهبة المقدسة لنتحرش ونشاكس ونثير بعض الزوابع بطريقة طفولية غير مسؤولة لا لشيء سوي لاستهلاك حرية القول فيما لا يعنيه. القول الذي لا يبني ينهدم على صاحبه.
القول الذي تشرق منه الشمس يكون بردا وسلاما على النوافذ. فلنقل ما يجيش بداخلنا حيث لا سياج ولا قفص ولا سقف أيضا. السماء رحبة.. والرئة تستوعب كل الأكسجينات. والاختناق غير وارد بالمرّة.
* هليل البيجو: الخطاب الأدبي الليبي يحمل حلما إنسانيا
الأدب الليبي لم يفتأ ينشد الحرية ويصبو إلى الخلاص وهو غير مقطوع عن الهم الإنساني، ولعل شيوع الحرمان لهذا الأدب بصوره العديدة أكبر دليل على مدى الإحساس بالنقص والحاجة الملحة للسمو بالنفس والتحليق بها في عوالم لا يحدها حد ولا يمنعها شد، وإذا أردنا الحديث عن الخطاب الأدبي الليبي بعد ثورة 17 فبراير فإننا نقول إن الوقت ما زال مبكرا لمعرفة ظواهر ومفردات تؤثر في هذا الخطاب أو تلقي ظلالا عليه.
وما ينبغي لنا التفكير فيه هو أن الخطاب الأدبي الليبي خطاب يحمل في طياته حلما إنسانيا نبيلا لم يعبأ بواقعه المرير وانطلق بعد الثورة محاولا ترتيب أوراقه واختبار ما بين يديه من مكتسبات يعتقد أنه مهد لها وعمل من أجلها.
______________________
نشر بصحيفة العرب .. 17-9-2012/ العدد: 9056
http://www.alarab.co.uk/previouspages/Alarab%20Daily/2012/09/17-09/p14.pdf