لماذا؟؟؟
من الأسباب التي جعلتني أبدأ بمطالعة هذا الكتاب حال تحميله، هو إنه يتحدث عن طرابلس خلال فترة السبعينات وتحديداً العامين 1973-1974م، أي ما بين عامي الأولين، والتي كل ما أعرفه عنها، هو من خلال بعص المعلومات والحكايات التي ترتبط ببعض الصور التي التقطها لنا الوالد بوسط البلاد (المدينة)، وعلى الكورنيش، وربما كنت وقتها في عمر الأربع سنوات!
أما السبب الثاني، فهو إن هذا الكتاب كما يظهر من عنوانه، وما سمعته عنه من قبل، يسجل لمجموعة من الأحداث التي عاشتها ليبيا بعد العام 1969م، وتحديداً عقب إعلان الثورة الثقافية في العام 1973م، وهي لحظات حرجة مازلنا نعاني من آثارها حتى اليوم!
الكتاب والكاتب!!
عنوان الكتاب هو (أيام في طرابلس) لكاتبه الأستاذ “الحبيب بوزكورة” ومن الاسم، كعادتنا كليبيين، نتبين أن صاحب الكتاب هو تونسي الأصل، فمن هو السي “الحبيب”.
الأستاذ “الحبيب بوزكورة” هو أستاذ تونسي، عمل في ليبيا كمدرس للغة العربية والتربية الإسلامية خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، بداية من العام 1972م.
وكما يخبر الشاعر التونسي الدكتور “نورالدين صمود” زميل الكاتب في الإعارة، في تقديمه لهذا الكتاب، إن السي “الحبيب” عرض عليه دفتراً كبيراً يحوي ما دونه من يوميات خلال فترة عمله بليبيا، وسأله عن صلاحيتها للنشر!، ويبين؛ أن الكاتب سجل يومياته يوما بيوم، وجمع فيها العام والخاص والشخصي.
أما في مقدمة الكاتب؛ فيذكر السي “الحبيب” كيف طالعه إعلان طلب لمدرسين للعمل في ليبيا، وكتمانه للأمر قبل أن يناقش في زيارة أسرية، ويتحول إلى أمر واقع، ليكون العام 1972م، هو بداية عمله في ليبيا، ولينتظر عاماً كاملاً، كما يقول في المقدمة، قبل أن يبدأ في كتابة مذكراته، بداية من 19 أوت (أغسطس) 1973م. ويضيف؛ إنه سجل هذه اليوميات بدافع شخصي، ولم يفكر في نشرها، خاصة وإن اليوميات تحتاج قدرا من الصراحة والصدق والجراءة في كتابتها.
لكنه عندما عاد إلى هذا الدفتر (الذي ألمح إليه “صمود” في تقديمه)، أعاد التفكير في مسألة النشر! خاصة وإن ليبيا التي يراها الآن، والتي شغلت العالم بأخبارها إبان ثورة فبراير العام 2011م، ليست ليبيا التي عايشها وخبرها!!
نذكر هنا، إن الكتاب صدر في العام 2012م، في 225 صفحة، وبعد حوالي 47 عاماً من تاريخ أول مذكرة تم تسجيلها.
وما يجب ذكره هنا، أنه في حديث عارض، علمت من الصديق والكاتب “يونس شعبان الفنادي”، إن صاحب الكتاب، الأستاذ “الحبيب بوزكورة” درسه بمدرسة (شهداء الشط الإعدادية) وأنهما على تواصل، المهم؛ أن هذا الكتاب هو جزء من ثلاث أجزاء تحت ذات العنوان (أيام في طرابلس).
يوم.. بيوم!!!
تبدأ اليوميات بتاريخ الأحد 19 أوت (أغسطس) 1973، وتنتهي في السبت 15 جوان (يونيو) 1974م، لذا فهي تسجل أحداثاً لما يقرب من 10 أشهر. هذا أولاً.
ثانياً أثبت الكاتب في نهاية الكتاب، خريطة لليبيا، ومجموعة من الصور لمعالم من طرابلس مدينتي لبدة وصبراتة (أزعم أنه من التقطها).
وكونها أو تجارب العمل خارج تونس بالنسبة للأستاذ “الحبيب”، فيبدو إنه عقد النية على تسجيل هذه اليوميات أو المذكرات، بنية الأنس أو الاستذكار، بالرغم من هذا النوع من الكتابة يحتاج إلى التزام وصبر لتخصيص وقت لتسجيل هذه اليوميات، وأن تكون على قدر من المصداقية والشفافية لنقل الأحداث بشكل أمين، وأزعم إن السي “الحبيب” قد التزم بكل هذه القواعد وهو يقوم على تسجيل هذه اليوميات يوماً بيوم. الأمر الثاني الذي نسجله حول هذه المذكرات إنه كانت موقوفة على تجربة الكاتب للعمل في ليبيا كمدرس معار، لأنا لا نقرأ كثيرا حول فترات إقامته في تونس (وأخص هذا الجزء الذي اطلعت عليه).
تناولت هذه المذكرات أو اليوميات الكثير من الأحداث التي تسجل علاقة كاتبها مع: شخصه، أسرته، محيطه الصغير (المدرسة)، محيطه الكبير (المدينة والإدارات والهيئات)، محيطه الأكبر (ليبيا)، ومن خلال هذه المستويات يمكننا أن نرصد الكثير من المتغيرات والملاحظات التي يمكننا تصنيفها إلى:
- أحداث شخصية؛ تخص الكاتب وأسرته.
- أحداث مجتمعية؛ تخص الكاتب وعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين.
- أحداث مجتمعية إدارية؛ تخص العلاقات الإدارية، سواء على مستوى المدرسة أو متطلبات الإقامة في ليبيا لغير الليبي.
- أحداث وفعاليات؛ تخص الأحداث التاريخية والمناسبات الاجتماعية، والسياسية والدينية.
ولعل ما ذكرناه أعلاه هو الفائدة الكبرى من هذه اليوميات، سواء الكتاب الذي بين أيدينا، أو غيره من كتب المذكرات، دون أن ننسى أن هذه السجلات هي سجلات مكتوبة بأيدي أصحابها بالتالي لا نستطيع أن نضمن شفافيتها تماماً، بعيداً عن الإسقاط أو الإخفاء أو التغيير.
لم يتغير شيء!!!
وجدتني أقول أو أعلق بهذه الجملة وأنا أتقدم في قراءة هذه الكتاب، فالكثير مما سجله الكاتب عن طرابلس لم يتغير منه شيء حتى تاريخ اليوم.
من الأشياء التي سجلها الكاتب هو ضعف شبكة الطرق في مدينة طرابلس، وكيف تغرق هذه المدينة في المياه عند هطول الأمطار، وكيف إن جزء كبير من شوارع المدينة لا يوجد به شبكات تصريف لمياه الأمطار، وإن وجدت فهي غير نافعة في الحيلولة دون أن ارتفاع منسوب المياه فيها.
رياح القلبي وهي تعصف بشوارع طرابلس، وتعبث بها وتغطيها بالتراب، ملمح آخر لم يتغير خلال الـ47 سنة الماضية.
المعاملات الإدارية، ربما تكون من أكثر المنغصات التي طالت الكاتب السي “الحبيب” واستنفذت الجزء الأكبر من طاقته ووقته، وهو واقع لازلنا نعيشه حتى يومنا هذه. بيروقراطية وبطئ إداري غير مبرر، يعيده الكثير للإدارة البريطانية، مما دعاه في إحدى اليوميات أن ينصح من يريد العمل في ليبيا، أن يكون على قدر من سعة الصدر وقوة الاحتمال وكظم الغيظ.
الارتجالية في اتخاذ القراءات، سمة أخرى تم رصدها، سواء على مستوى الإدارة الصغرى (المدرسة) أو الإدارات العليا، على مستوى الدولة، التي تنتظر حتى اللحظة الأخيرة لإعلان قراراتها، كإعلان مواعيد العطلات.
من الأشياء التي لم تتغير على الصعيد الاجتماعي، هي نظرة المجتمع الليبي لغير الليبيين، من البلاد القريبة أو البعيدة، فهم دائما في مرتبة دنيا، ويتم استغلالهم لتحقيق المصالح.
والكثير من الأمور التي ربما لو تتبعناها لضاق بها المقام، كـ: الفزعة، الازدحام الشديد في الأعياد، الزرادي، عدم الاهتمام بالمدن الأثرية، عدم وجود ثقافة القراءة في المجتمع، الاعتماد على الأجانب، استيراد كل شيء من الخارج، المسيرات، مشاكل المرور في شوارع طرابلس، القيادة بسرعة، وغيرها الكثير.
ولعل أعجب هذه الأمور، هو وضع البوابة الحدودية (راس جدير)، والتي مازالت تحافظ على حالها، في إرهاق المسافرين، ويصرح السي “الحبيب” أن البوابة من الجانب التونسي أكثر تعقيدا منها من الجانب الليبي.
كما إنه يركز من جانب على بعض المتناقضات في هذا المجتمع، التي إما قام بذكرها بشكل مباشر كما تدوينته التي تخص المولد النبوي الشريف، من إقبال الليبيين على شراء شجرة الميلاد، بهذه المناسبة، أو بث التلفزيون الليبي لمراسم (الشعرة الشريفة).
أو المتناقضات التي لم تتم الإشارة إليها بشكل مباشر، هي الحظوة التي يتحصل عليها بعض العاملين من غير الليبيين، والتي تمكنهم من النفاذ إلى بعض الجهات، أو التصرف في أملاك.
أحداث تاريخية!!!
أشرت في بداية هذه لقراءة، إلى أن أولى سجلات هذه الكتاب تعود إلى 19 أغسطس للعام 1973م، أي بعد 4 أشهر و5 أيام من إعلان الثورة الثقافية (الشعبية)، أو ما يعرف بالنقاط الخمس، بمدينة زوارة!! ولعل هذا السجل رصد لنا بكثير من التفاصيل تبعات هذا الإعلان؛ بداية من منع العطلة الصيفية على الطلاب، إلى بداية فكرة اللجان الشعبية، وهي مرحلة مهمة في تاريخ ليبيا، مازلنا نعيش آثارها حتى تاريخ اليوم.
ورصدت هذه اليوميات الحراك السياسي الداخلي في ليبيا، وعلاقتها بجارتيها؛ تونس ومصر، وعلى المستويين الأفريقي والدولي، وهوس “القذافي” غير المدروس بالوحدة العربية، واندفاعه في هذا الخط، دون أن تكون هناك رؤية واضحة، ولعل مجموعة ما سجله السي “الحبيب” حول الوحدة بين (تونس وليبيا)، وتعامل الجانب التونسي مع هذه المسألة، يكشف لنا الكثير، ويساعدنا أن نعرف لماذا فشكل كل مشاريع الوحدة العربية التي سعت إليها ليبيا!!!
حرب أكتوبر 1973م، أحد الأحداث التاريخية المهمة التي رصدتها هذه اليوميات، يوما بيوم، وتفاعل المجتمع الليبي معها، وما رافق هذه الحرب من حراك سياسي دولي خرج بها للنهاية التي خيبت أمل المواطن العربي، فرصد السي “الحبيب” انعكاس آثار هذه الحرب على المجتمع وعلى المدرسين المصريين بشكل خاص، وكيف تعاملت ليبيا مع هذا الحدث.
كما وتشير هذه اليوميات إلى الإرهاصات الأولى لتوتر العلاقات بين ليبيا ومصر، والذي بلغ ذروته في الـ77م.
ومن الأحداث التي تم تسجيلها، استقالة “القذافي” واعتزاله، والشائعات التي تتداول في الشارع الليبي، وهنا يشير الكاتب إلا أن ما يحدث في الدوائر السياسية والإدارية في ليبيا تجده مشاعاً في الشارع الليبي، وليطلق السي “الحبيب” قاعدته التي تقول: أنك لو سمعت بإشاعة تتردد بشكل كبير في الشارع الليبي فاعلم إنها معلومة حقيقية!!!
التعليم الليبي!!
من المسائل المهمة التي ركزت عليها هذه اليوميات، هي التعليم في ليبيا، والسبب معروف، فالسي “الحبيب” مدرس معار للتدريس، ومن الطبيعي أن يكون التعلم همه الأول كونه سبب وجوده في هذه البلاد، ومصدر لقمة العيش. كما القسط الأكبر من يوميه يقضيه في المدرسة.
مجموعة من النقاط المهمة ركز عليها الكاتب، والتي مازلنا نعاني منها حتى اليوم للأسف، كعلاقة الطالب بالمعلم، وعلاقة المعلم بالطالب، فهما وإن تشابهتا ظاهراً، إلا أنهما مختلفتان جملة وتفصيلاً، فالطالب الليبي، كما يسجل الكاتب غير عابئ بالدراسة، ولا يهتم بها، والمعلم الليبي هو ممارس وليس معلماً، يستخدم أسلوب الترهيب.
الطالب الليبي ضعيف في تحصيله العلمي، وخاصة على مستوى التعبير والإملاء، والسبب ضعف مستوى التعليم، وغياب الاهتمام من قبل المعلمين.
العملية التعليمية في ليبيا عملية، غير ثابتة، فهي تخضع للكثير من التغيير، والأسلوب المستخدم في التعليم لا ينجح في تطوير المهارات والتحصيل العلمي للطلاب.
وفي ظني، إن تدوينة السي “الحبيب” المؤرخة في (الاثنين 5 نوفمبر 1973م) في الصفحة 77 من الكتاب، لخصت مشكلة التعليم في ليبيا، حيث عرضت لأهم المشاكل في مجموعة نقاط، منها:
- فقدان الشخصية الليبية الصميمة في أجهزة التعليم في بمختلف مراحلها.
- عدد المدرسين الليبيين لا يتناسب وعدد الطلبة.
- ضعف الجهاز الإداري.
- المناهج أو البرامج التي هي في واد والتلاميذ في واد، أي إنها بعيدة عن واقعه.
وعن هذه النقطة الأخيرة، يفصل الكاتب في تشريح منهج اللغة العربية، وكيف إن النماذج والنصوص التي يدرسها الطالب، توجه تفكيره إلى العروبة والإسلام، وهي التي تواجهه أينما التفت في الراديو والتلفزيون، أيضاف في الصحف والمنشورات المحلية، ويخلص الكاتب للقول (وكانت النتيجة لهذا كله انغلاق تام على الذات وتعصب أعمى لكل ما عربي إسلامي، وكره فاحش لكل ما هو أجنبي عن العروبة والإسلام، ثم جهل تام بما يدور في الدنيا خارج حدود ليبيا والبلاد العربي) ص 78 من الكتاب.
ماذا تبقى؟
في التدوينة المؤرخة في الخميس 10 جانفي (يناير) 1974م، يذكر الكاتب معلومتان مهمتنا؛ الأول حول مهرجان المسرح، ورغبته حضور أحد المسرحيات، لكن غياب التغطية الإعلامية لمعرفة خطة العروض، وعدم اهتمام الناس بهذا المهرجان فوتا عليه الفرصة.
المعلومة الثانية، أن صحف ذلك اليوم أعلنت نتائج الإحصاء العام لسكان الجمهورية العربية الليبية، والذي بلغ 2,257,000 نسمة، وذكرت الإحصائية أن عدد الرجال أكثر من عدد النساء، ويعيد التقرير نسبة الزيادة في السكان إلى تحسن مستوى المعيشة في ليبيا.
التدوينة المسجلة بتاريخ الجمعة 22 فيفري (فبراير) 1974م، التلفزيون الليبي يعلن عن انتشار وباء (الحمى الشوكية) أو (المننجيت) بالبلاد، والذي وصل عن طريق الحجيج القادمين من المملكة العربية السعودية، حيث طلبت وزارة الصحة بتمديد العطلة المدرسية مدة أسبوع. وتعليقا على هذا الخبر يقول الكاتب (ومما يساعد على انتشار الأمراض أيضاً اكتظاظ مدينة طرابلس بالسكان، وقلة النظافة في الشوار وحتى في بعض البيوت، وجهل الناس بوسائل الوقاية وحفظ الصحة) ص 147.
هناك الكثير مما تحتويه هذه اليوميات، والتي تكشف لنا المجتمع الليبي وتعرض لحركته والحراك التاريخي والسياسي لليبيا، لكني أسجل هنا ملاحظتين:
- الملاحظة الأولى؛ وتتعلق بعلاقة السي “الحبيب” بجيرانه في الحي، وقد اعترف بتقصيره في هذا الجانب.
- الملاحظة الثانية؛ أنه بالرغم من تسجيله للكثير من الأمر، لم نره يذكر شي عن صلاة الجمعة أو ما يتعلق بها سواء على مستوى الحضور أو موضوعات الخطب.
الكتاب ممتع في الكثير من المعلومات، ومكتوب بلغة سهلة وبسيطة، وهو ما يزيد من رغبتي في قراءة باقي الأجزاء.