مجدٌ يمشي على قدمَين.. قراءة في مجموعة (تاجوريا) للقاص الشاب “محمد النعاس”

يعرِّف الأستاذ “فؤاد قنديل” القصة القصيرة بأنها: (نص أدبي نثري يصور موقفاً أو شعوراً إنسانياً تصويراً مكثفاً له مغزى)، ولو أخذنا هذا التعريف مدخلاً لقراءة المجموعة القصصية التي بين يديناـ لاكتشفنا إنه يطبق عليها تماماً، فالمجموعة التي جاءت في 10 قصصٍ قصيرة، وفي طبعة إلكترونية نشرها القاص من خلال مدونته، تعتمد الاقتناص والرصد، وتسجيلهما من خلال الشخصيات والحالات التي اختار القاص الدخول لعالمها والبحث فيها.

تاجوراء

صديقتنا القاص، لا يخفي حبه، بل يعلنه صريحاً، ويعلن عن اسمها. إنها (تاجوراء) المدينة الساحلية الصغيرة، الواقعة شرق طرابلس، مفتخراً بانتسابه لها، ولما تعنيه (تاجوري) من أنفة وعز. ومن خلال مقدمته القصيرة، يحاول القاص أن يعيد تفسير الاسم أو صياغته معنىً من خلال اللغة الأمازيغية، لتكون (تاجوراء) أو (تاج أوراء) كما عرفناها (المجدُ المشّاي)، بمعنى أن الـ(تاجوري) مجيداً يمشي على قدمين.

المكون (التاجوري) الثاني لهذه المجموعة، هو أنها المكان الذي اجتمعت فيه القصص، أو المكان الذي ضم أحداث هذه القصص وشخوصها.

ومن خلال ما رصده الكاتب من شخوص، نقف على حجم الغني الذي يمكن لمدينة صغيرة أن تضمه، وما لهذه المنطقة من زخم حياتي. وبالرغم من حداثة عمر الكاتب –وهو طالبٌ جامعي-، إلا أنه يحاول من خلال ما جمعته ذاكرته من حكايات، وعراقته العائلية في المنطقة، وعينه الواسعة والدقيقة في الرصد والتقاط ما يمر بها، إنتاجٍ نص قصصي قصير، يعتمد على البحث في نماذج إنسانية موجودة في الحياة اليومية التي نعايشها، والتي قد تصادفنا في الشارع أو الأسواق. وهو بجانب الرصد، يعمل على بناء الشخصية تاريخاً وعلاقات، فلا تعد الشخصية مجرد خيالاً عابراً، مجبراً إيانا على محاولة تذكر أين صادفناها أو مررنا بها، أو جلسنا إليها.

أشخاص وعلاقات وحكايات

تعتمد قصص المجموعة العشر، على رصدها للشخصيات والمكان، والقاص إما يتقاطع معها –أي الشخصية- في حدث أو يكون رفيقاً. وهو يقوم بعملية الحكي (القص) من الداخل تارة، ومن الخارج أخرى، فهو يسبر الشخصية بما أمكنه من معلومات أو ما عايشه، ليقف عليها راصداً لتفاصيلها الخارجية وطبيعة حياتها. أما المكان فهو جزءٌ منه، يعرفه تاريخاً وجغرافيا. وهو يعتمد على استراتيجية في كتابته لقصصه القصيرة، ترتكز على ثلاث نقاط:

1- الشخصية في ذاته.

2- شبكة العلاقات التي تمسها وتحيط بها.

3- رؤيته له / قراءته للمشهد.

وهي استراتيجية ناجحة، حافظ عليها القاص، واستخدمها لكتابة قصصه التي جمعت في هذه المجموعة.

فـ(الأستاذ محمد، وعمر، والحاجة مبروكة العايبة، وعككز، وغيرهم)، ليست مجرد شخصيات يرويها القاص أو يحكي عنها، إنما هي صور لعلاقات وسلوكيات، تعكس معرفةً وثقافة، وترصد واقعاً. وهي حتى إن لم تكن بعيدة الأثر تاريخياً لحداثة عمر القاص، إلا أنه يحاول من خلال ما يمكنه أن يقدم الصورة كاملة، ليتركنا نتأمل المشهد، ونعتبر، وننتشي بالحدث. ويمكن تقسيم الشخصيات إلى مستويين:

1- مستوى أول: شخصيات حاضرة في المشهد، فاعلة فيه/ نشطة.

2- مستوى ثان: شخصيات غير فاعلة في المشهد/ هامشية إلى حدٍ ما.

واختيار هذه الشخصيات، يعتمد على مدى علاقتها بالقاص، وتقاطعه معها، لذا ثمة علاقة خاصة نلحظها بين القاص وكل شخصية، حتى ليمكننا تلمس مستوى العلاقة بشكل واضح، من خلال طريقة التعبير عنها، ووصفها، وعمق المعرفة وحدة رصد التفاصيل.

تقنية

لا يعمد القاص إلى ابتكار تقنية بذاتها للدخول لقصته، إنما يعتمد الركوب المتمهل للحدث، بمعني إنه يعتمد على ما يمكن للشخصية أن تقدمه له من أدوات، فتارة تكون هي نقطة الانطلاق –في الغالب- وتارة يكون حدث ما هو لاستدعائها. وهذا بالتالي يجعل من مدخل القصة مدخلاً مباشراً، أو لنقل هادئاً.

الحركة الثانية التي يعتمدها في الكتابة، هي تركيز النظر على الشخصية، كمحور للقصة، ومن بعد تشكل دوائر العلاقات حولها. مما يجعل من السهل تتبعها وتتبع سيرتها، خاصة وإن القاص لا يبتعد عنها كثيراً. فهو يعتمد الوصف الخارجي أكثر، المباشر، البعيد عن العمق، في جمل محددة وباتجاه المتلقي، أما اللغة فهي سهلة بعيدة عن التكلف، تشعرك بحميمة ما بين القاص وشخوصه.

القاص “محمد النعاس” يحاول من خلال مجموعته، الدخول لعالم القصة القصيرة، من باب الرصد، لا الحلم. الرصد المبني على الملاحظة، والبحث، وربما دراسته للهندسة الكهربائية قد ساعدته في هذا، وفي رسم مجموعة من الدوائر المتوازية تتقاطع كلها في شخصه، فاعلاً في نصوصه من طرفٍ خفي، ليس الراوي، إنما محرك الأحداث، فهو من ركنه البعيد يراقب ويحاول من خلال ما يملك من مفاتيح تحريك الحدث والتحكم فيه، وضع فرضياته ليتحرك الحدث على أساسها.

أقول لـ”محمد النعاس” مرحباً بك في عالم القصة، وأهلاً بك في تجربة القصة القصيرة الليبية.

نشر بصحيفة (ليبيا الجديدة) العدد 82/ 26-11-2012.

أعيد نشرها بصحيفة فبراير: 21-03-2013

مجدٌ يمشي على قدمَين.. قراءة في مجموعة (تاجوريا) للقاص الشاب “محمد النعاس”

تعليقان على “مجدٌ يمشي على قدمَين.. قراءة في مجموعة (تاجوريا) للقاص الشاب “محمد النعاس”

  1. solaf altrablsi يقول:

    فعلا القراءة مرضية جدا,الباش مهندس محمد النعاس ابدع فى الحكايات العشر. شخصيا اكثر اللى حبيتهم هما”الحاجة مبروكة العايبة,عبسى البرويطه”….نتمنى ان الكتابات هده تحضى باهتمام اكثر من هكى ,عموما مشكوريين.

  2. عبدالمولى الشريف يقول:

    قرأت له بعض القصص المنشورة في موقع الحوار المتمدن منها القصة المعنونة بــ “الحياة من وجهة نظر بيضة” وأتفق كثيرا مع الأستاذ رامز بأن دراسته في الهندسة الكهربائية ربما تكون قد ساعدته كثيرا على الملاحظة والبحث ـ وقصصه تنفتح كثيرا على الإنسان بوصفه مادة فلسفية قابلة لإعادة التشكيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *