مقدمة:
تمثل تجربة الشاعر “جيلاني طربيشان” مفصلاً هاماً في تجربة الشعري الليبي، كونها تجربة نشأت مخلصة للشعر (كنص)، ولدي اعتقاد حد الإيمان، أن الشاعر “جيلاني طريبشان” عاش ليكتب قصيدة واحدة، وأن النصوص التي كتب، أنما صورٌ متعددة لهذا النص. أو لنقل إنها روافد لنهر واحد هي تجربة الشاعر/النص.
فالشاعر أنما يمارس النص كحياة أو الحياة كنص. والباحث في نصوص الشاعر يكتشف الذات الصارخة في نصوص الشاعر، والتي تستنطق الأشياء فيما حولها والتسرب فيها. وعلى العكس مما قد يُظن، فنصوص الشاعر غنية، وغناها في تنوع مصادرها. وهو تنوع يعكس قدرة الشاعر على الاستفادة من كل ما يتماس معه، وتحويل العادي (المعتاد، اليومي) إلى حالة شعرية، ومنح اللحظي فرصة الاستمرار في النص. لذا فهو يقتنص اللحظات، ويسجل في ذاكرته الدقائق والشوارد ويعيد إنتاجها في النص في لغة سهلة، تتسرب بسهولة للقارئ، من خلال مفردات النص التي لا تعتمد الغريب، إنما القريب جداً، إنه مفردات اليومي والعادي.
هذا العمل:
هذا النص محاولة لموازاة نص “جيلاني طريبشان” بإعادة إنتاجه، أو اكتشاف النهر، من خلال إنتاج نص مسرحي (ممسرح)، هو مجموعة من نصوص الشاعر، اعتمدت (أو حاولت) فيها التقاط الخط الجامع فيما بينها، أو لنقل محاولة سبر سيرة الشاعر في نصه. كيف تكلم، كيف انفعل، كيف احتج، وكيف وكيف وكيف؟.
أما الشكل المسرحي، فلكون الشاعر إنما كان يمارس النص في أكثر من مستوى أدائي، مما منحني الفرصة لإعادة ترتيب النص في حوارية.أحاول من خلالها الوقوف على أهم لحظات النص، لحظات الشاعر.
ولقد اخترت أن يكون الحوار في هذا العمل بين الشاعر وذاته في صورة (الصوت) و(مجموعة الأصوات). ولقد تم فصل الحوارات رغبة في إظهار مستويات تعاطي الشاعر مع النص، وأيضاً تركيز الضوء على المفاصل المهمة في تجربة الشاعر.
في هذا العمل نفترض أن في الواجهة الأمامية للمسرح شاشة قماشية بيضاء مضاءة من الخلف، والممثل يؤدي دوره من خلف هذه الشاشة البيضاء، وللمثل أن يتحرك كيف يشاء في حركة عرضية على المسرح.
أما الصوت، فتمثله بقعة ضوئية زرقاء أعلى الشاشة يتحرك فيها النص المنطوق مكتوباً. ويتحول هذا الصوت إلى مجموعة الأصوات.
__________________
دفـتر الغـريب
_المـكابـدات_
الشاعر:
لا أطلبُ شيئاً في هذا الجبُ الفاغرُ فاه،
غير سؤالِك يا الله.
إن كنتَ حكمتَ بأنْ يتشَّرد عبدَك في دنياك
فلتأخذني السَّاعة،
فالشاعرُ في الأرض الْـْ…
جحيمكَ كلَّ مناه.
الصوت:
ما الذي جئتَ تفعلهُ،
في بلادٍ لست تعرفُ فيها أحدْ؟
لقد آن أن تستريح.
ما الذي جئت تفعله؟
فالدوائرُ ليست كما تتراءى الدوائر
والشوارعُ عامرةٌ بالأفاعي،
والبناتُ يداومنَ في الصبحِ في الثكنات
والقبائِلُ تتهيأ للرقص
في مهرجانِ التطامِ الجديد.
الشاعر:
عندما جئتُ هذي البلاد
لم أجئها نبيّاً
لا غازياً، لا وصياً
لم أكن مطرُ
لم أنشرِ الخصبَ في الحقول النديّة
لم أكن واحة يستظلّ بها المتعبون
لا خيمةً تقرئُ الضيف،
تشعلُ النار للضائعين على الطرقات الشقيّة
جئتُ طفلاً- لم يعلمني أبي حكمة الشيخ-
ولا راودتني البطولةُ في المهد
كي أرتدي ذاتٍ صيف بليد
خرق الصوف، وأدعي الصوفيّة
عندما جئتُ هذي البلاد
عرّجت أبحث عن خان (السري)
علّ لي دارةً أبتنيها
علّ لي أخوةً لم يزل بعضهم يحملُ طيب البداوة
خفقة القلب،
بَسماتِ الصباحِ النديّة بالورد
علّ ليلى
علّ سلمى
يُسائلن عني الريح لو مرّة/ واقْـتَفينَ البراري/ ينكتن بأعوادهن
يسألن الرمل عن فرسي العربية؟
ناقتي التارقمية
يفتشنَ في الصخر عن قدمي البربرية
ما الذي جئت أحمله؟
هاأنذا لم أزل أضرب في التيه
لم أجد غير الخمور مغشوشة/ هلوساتُ المرابين
عربات الأخوة الأعداء
دارتي/ ها هي الآن دونها مدّعي الثورية!
الصوت:
تجلسُ الساعةَ في فندقٍ،
يطلُّ على المتوسط
ليس فيهِ من بهجةِ النزل غيرَ الضجيج!!
الشاعر:
لا أنتظر أحداً
مضى زمنٌ كنَّا فيه ننتظر الأخضر
صورةً في جدار
ليس فيها من اللون، غير اهتبال المرايا.
يلفظني البحر فأقبع في جوف المقهى المعتم
على الجانب الآخر،
تتمددين في أطراف الصحراء
تتعرين شهوةً
في هشيم النار المشتعلة في ظهيرة مايو.
تقفين على الناصية
تنشرينَ ملابسكِ الداخلية؟
تتعرين في لحظة الطلق غبَّ السّحر،
وأنا واقفٌ كإله البرابرة القادمين على صهوات الجياد الهزيلة،
واقفاً في الهشيم
واقفاً في الظلام
نافضاً كل غابات أفريقيا
راصداً وجهك الملكي ومتشحاً بالسواد
رافضاً نزوات الجسد،
تضحكين،
تضيء نواجذك الذهبية، يزحف القادمون!!،
يرفعون برانسهم ويدقون باب المدينة:
أيها القادمون من الظل.. لحظة،
إن لي بينكم صاحباً كان يوماً ينام بداري
ويعرف أمي وأختي ويعرف جاري،
كان يرعى الشياه،
ويعشق أجمل ما أنجبته نساء القبيلة،
إنه قاتلي..
الصوت:
فليكن.
ما الذي ترتجيه؟،
أيُّ هذي البلاد التي أنت فيها؟
مجموعة الأصوات:
في البلاد البعيدة كان يمشي وحيداً
كان يختال بين سربِ البناتِ الجميلات،
الأنوثةُ تتدفأ في الواجهات
والعصافيرُ قد هاجرت لشفاف البحيرات.
في البلاد البعيد،
كان يمشي وحيداً
في الغسق القرمزي
المكان/ الزمان/ الدخان/ المرايا
المكان
حانة وسط دبلن،
حيثُ لا يعرفُ السفراءُ همَّ المسافات
كان يأتي صباحاً
ملتحياً بشجون المرارات، حاملاً وجده،
وبقايا عباءته المغربية
شعره الفحم، الأبنوس
الشاعر:
كيف تبيض كل هذي الشعيرات..؟
آه
خلفتك المرارات/ العيون التي تبرق الآن عبر الكوى.
وجهه الجهم كيف يتبعني مثل ظلي؟
متقفياً أثري،
قارئاً سيرتي البابلية
انتفض…!
انتفض، أي هذا الجواد الهزيل،
الطريق طويل
كورك/ ويكلي/ بلفاست/ لندن ديري/ ليفربول/ لندن،
آه لندن
كيف أفنيتني هكذا بغتة؟
المحطات، النهر، الشجر، الميادين
آلهةُ الحب والحرب،
آلهةُ الخمر
النساء الجميلات حقاً
كم مرة يتضوعن بالزعفران؟.
الصوت:
ما الذي جئت تحمله؟
الشاعر:
ورقٌ،
وبقايا تصاوير مائية، وكتاب السفر.
…
في الليل استحضر سنوات خلت
أستحضر تذكارات بالية
وتصاوير نساءٍ مقهورات
أبحث في الأدراج عن خيط يرفعني من هذا الجب
أسأل شيطان الكلمات:
من يوقف هذا الحزن الآتي؟
من يعطي الطفل النزقَ بريق الصبوات؟
من يحمي الزهر الطالع من قيظ السنوات؟
…
منذ خمسة عشر يوماً
والريح تفح محملة بتراب الصحارى
الشبابيك مغلقة
والستائر مسدلة
ومصابيحنا انطفأت
الصهاريج قد غيبتها الرمال
والعصافير قد هاجرت لشقوق الجبال
والغصون تئن مع الريح،
ثم تهوي مجندلة في التراب.
السماء رمادية،
غير أن المياه هاجرت لضفاف البحيرات
نحن نبكي..
لكننا نتقاسم كل هذا المساواة.
الصوت:
هل جئت تبحث عن أهلك الغابرين؟
الشاعر:
لا فرق عندي
فيكفي رحيلك كي تكُ عندي
هو الوقت لا نعرف الآن أين الدليل/ وأين الرفيق وأين العدو/ وأين الصديق
وأين الأحبة، “أما الأحبة فالبيداء دونهم”
طريق دمشق خراب، خراب
كل الدروب خراب
خراب/ خراب/ خراب/ خراب/ خراب
خراب/ خراب/ خراب/ خراب/ خراب
خراب/ خراب/ خراب/ خراب/ خراب
خراب/ خراب/ خراب/ خراب/ خراب
تضيق الجزائر
علمّتنا أن الجزائرَ يمكن أن تنطق في لغة الصين أيضاً جزائر،
أن كل البلاد جزائر.
مجموعة الأصوات:
قبل عشرين عاماً
عرفتك الشجيرات في أول التل
طفلاً صغيراً
يطارد سرب الحمام،
ويبني قصوراً من الرمل، أو وطناً
يحلم أن يتقاسم فيه المهمات
وها أنت ذا الآن في جبل ليس فيه من الأطلس
غير الحجارة.
تنتظر الشعر
تخلق طقساً من الوهم
تفتش في ذكريات الليالي الطويلات
الشاعر:
هل كنت حقاً أنا ذلك المارد المتدفق بالأمنيات؟
يا ولدي يا قدري الغامض
هل تغفر لي هذا الزلة،
في مدن
لا يلقى فيها أبوك مثواه..؟
…
كيف أفهم هذا الصغير بأني حزين
وأني أحاول صيد السحاب
وأني أحب البلاد،
التي ليس منها غير الخرافة
كيف أخفي دموعي عن الطفل،
والمرأة الصابرة،
كيف لي أن أنام ؟؟؟
الصوت:
أسألك الآن:
لماذا أشحت بوجهك؟
لماذا لا نتقابل؟
الشاعر:
عندما جئت لم أكُ أحمل لأصدقاء الطفولة
ربطاتُ العنق
لا النوق العصافير
جئت أحمل ذكريات الليالي الطويلات/ آه الليالي الطويلات
السفر/ المجاعة/ ليالي البكاء المر بأقبية الشرطة الممتدة من الجرح إلى الجرح
جئت أحمل نُدباً هي كل ما تركته العروبة لي من
أوسمة يتقلدها الآن البليغون في العدّ
وتلبسها الفاتنات حين يأتي المساء دروعاً من الماس
ليسقط آخر قيس مضرجاً بجفون الشفهيات/ الرشيقات
آه ما أكثر الساحرات
ما أنذر الشاعرات
الصوت:
ما الذي تذكر الآن قل لي:
ما الذي تتذكر،
رحلة الصيف/ رحلة الزيف/ النساء/ الخلاخيل/ همس الجواري المحارم/ إن كل النساء محارم
الشاعر:
كنا خمسة في باريس
يقتعد الواحد منا أرضية الغرفة
وجريدة “لوموند”
ويدير الآخر منا “جرامافون” الصمت
فتنغني “لوليتا” أغنية حب:
…
كبرت الدولة
لم يعد بالإمكان إغواؤها
صار لها صيارفة
مأمور ضرائبٍ، وقضاه
لم يعد ممكناً الظفر منها بشيء!
ما لم تكن صيرفياً
مأمور ضرائب، قاضياً
ولكن
أين المعاهد التي يتخرج منها الصيارفة،
مأمور الضرائب، والقضاة ؟
…
أو تهمس فيروز تناجي العود:
بين أن تعبر البحر أو تلتفت
جبل من رماد
غابة من عظام الذين مضوا في الهزيع الأخير
عبروا خشب المقصلة،
ومضوا تاركين العيون التي لا تنام
العيون التي ستظل تحدق في القتلة
العيون التي ستظل شواهد عصر المجانين والسفلة.
الصوت:
قف
مجموعة الأصوات:
يسألك الحرس الملكي المتلفع في أول الناصية
الصوت:
إلى أين تمضي؟
الشاعر:
قادم من بحار الأساطير
قبضتي الماء ويديها الحنين
مرساتي ملقاة على النهر
وأنا غارق في اليقين
…
قابضٌ على الريح أغني
لو ضمني مع المدى تيار
أين أيامنا القديمة الخضراء
تنداح
هاهنا إعصار
…
خذ كل شيء
أعدني إلى قبر أمي!
أعدني إلى دارتي في الجبل..
أعدني إلى وطني شاعراً…
لا غازياً لا وصيّاً…
…
أيها الشعر أسألك الآن:
كيف تخبو الأماني الصغيرات؟
هل ذبلت زهرة القلب؟
أيها الشعر:
أه لو جئتني قبل هذا السكون،
حين كان القميص مشجرْ.
إظلام