يوم تسليم السنوسي*

1

لم يكن بالخبر العادي ليمر دون تعليق، أو جلبة.

لحظتها كنا نستعد للخروج لإعداد الترتيبات اللازمة لاستقبال الطائرة بحقل الـ103A، عندما ظهر الخبر فجأة على شاشة الأخبار، فتسمرنا إليهِ ثلاثـتنا دون حراك. تحركت أصابعنا بين قنوا الأخبار العربية والدولية والليبية، باحثة وراء الخبر، الكل يؤكد وصوله إلى ليبيا، دون تأكيد الحكومة الليبية. مجبرين تركنا التلفزيون صوب المطار، والحديث مرتكز حول السنوسي وما يجب فعله. في الطريق إلى مطار الحق، حاولنا الاتصال بزملائنا العاملين بمطار معيتيقة، لتأكيد خبر وصوله لمطار إليه. ولأن النت يعاندنا في الصحراء كثيراً، كان التلفزيون هو الوسيلة الوحيدة لإرواء فضولنا.

2

(صحة للتريس)، صاح بها زميلي وهو يتابع خبر تسليم السنوسي، والصور تتوالى على الشاشة وهو ينزل من طائرة عمودية حطت به في المكان الذي سيسجن فيه، والصيحات من حوله (دم الشهداء.. ما يمشيش هباء). لحظتها صحت: (الله أكبر).

(ضربة معلم)، أو بالتعبير الرياضي (خُطافية، يسارية) استطاعت بها الدبلوماسية الليبية أن تكون القاضية في مسألة تسليم هذا المجرم الخطير. كانت قوية ومفاجأة؛ قوية لأنها بحجم الحصول على (الصندوق الأسود) لنظامٍ مستبد، اختطف ليبيا لأكثر من أربعين عاماً، ومفاجأة لأنها ستربك الكثير ممن مازال يظن أو يعتقد إن ليبيا (سائبة)، وأنه يمكن زعزعة نظامها ببعض المفرقعات هنا وهناك. إنها القاضية التي ستتلوها أخريات.

وهي –في موازاة للحدث- رسالة موجهة لكل من يظن إن يد ليبيا لن تصل إليه، أو إنه في مأمن من مكر الدبلوماسية الليبية، وهو مكرٌ محمود مشكور، يحبّه طلاب الحق والعدل. ومن ناحية أخرى يطمئن الشعب الليبي أنه لن يطول الزمن بالمطلوبين حتى ينالون الجزاء العادل داخل ليبيا، لا خارجها. وحدها المحاكم الليبية من ستقول كلمة الفصل والعدل في حق هؤلاء الطغاة الصغار.

3

كتبت على حائطي في الفيس بوك ليلة التسليم، أنه على حكومتنا نشر التحقيقات التي ستجرى مع السنوسي. والسبب -في ظني- أن قضية السنوسي قضية رأي عام، بمعنى إنها قضية تهم كل الليبيين، بدون استثناء، فالكل تضرر من وجود السنوسي خلال حكم الطاغية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لو فكرت للحظة، ستجد إنك بطريقة ما قد تعرضت لأذى ما، كان السنوسي سبباً فيه، فلقد كان الأخطبوط الذي يملك ذراعاً في كل مكان، يحيطك بها، فلا تجد من مفر.

سيكون من الجميل، أن تبث هذه التحقيقات بشكل مباشر، أو أن تبث في شكل تسجيل لأهم ما يدور في التحقيقات، خاصة ما يخص الشأن الليبي، وهذا ما يهمنا. ولم لا، أن تفتح قناة اتصال خاصة لاستقبال أسئلة المواطن الليبي، وما يمكن أن يثار من مسائل يُراد الاستيضاح حولها. فالسنوسي –في رأيي- أهم من المقبور ذاته. وأن يكون الهم الأساسي للحكومة الليبية –من خلال وزارة العدل- الحصول على كل ما يملك هذا الرجل من معلومات مهما كانت، وأولها قضية سجن (أبوسليم). فإن كان السنوسي صنيعة المقبور، فهذا يعني إنه كمنتج يحمل كل صفات المنتِج وطريقة تفكيره، الأمر الذي يفسر لنا الكثير مما كان يحدث في ليبيا خلال الـ42 عاماً.

4

أتمنى أن تتحقق للسنوسي –وغيره من رجال المقبور- محاكمة عادلة ونزيهة، تكفل لهم كامل الحقوق، حتى يكون الحكم من جنس العمل، وبالمقدار ذاته.

فحن بهذا نثبت علو كعبنا وترفعنا عن ظلم ضعافٍ كانوا بالأمس طغاة، وفي ذات الوقت نؤكد للعالم سمونا أخلاقيا وقانونياً، وإننا نسعى لتطبيق القانون لا الانتقام.

ولتكن المحاكمات –كما هي الآن- علنية ومباشرة، يمكن لأي شخص مهما كانت صفته، متابعتها والتعليق عليها، فهم من الضعف والوهن بما لا تسمح أخلاقنا (بيتيتنا) قهرهم أو إذلالهم أكثر. فثورة 17 فبراير قامت بالحق وعلى الحق، وستتجه بليبيا للحق. (الله أكبر) و(دم الشهداء.. ما يمشيش هباء).

______________________

* هو “عبدالله السنوسي” أو من يلقب بـ(الصندوق الأسود) رجل الاستخبارات الليبية.

يوم تسليم السنوسي*

الخـطـرُ الأمـازيـغـي

مصطلح (الأمازيغ) من المصطلحات التي تعرفت إليها مؤخراً، أو لنقل في الجزء الأول من حياتي الثقافية، وبالتحديد في بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث كنت –حتى وقتها- أستخدم التعريف المحلي المقابل للمصطلح (الجبالية)*.

(الجبالية) كانوا جيراننا لسنوات طويلة، قبل أن يتركوا الحي للسكن إلى آخر، ويجيئ غيرهم، ولا زلت أذكر كيف ودعناهم وودعونا بالدموع، ومازلنا على تواصل. تربيت في بيتهم، أكلت من خبزهم وتذوقت ملحهم، وكنت أحب البيض المقلي الذي كانت جارتنا –الله يذكرها بالخير، هي جدة الآن- تعده على طريقتها الخاصة. لعبنا سوياً، تخاصمنا، تصالحنا، كنا صغاراً، وكان الفرق الوحيد هي اللغة التي يتحدثونها، والتي استطعت التقاط العديد من مفرداتها، درجة فهمي وتحدثي بها قليلاً.

في الجامعة جمعتني قوائم التنسيب بزميل دراسة، درس هو الميكانيكا ودرستُ الطيران. في استراحاتنا كنّا نتحدث كثيراً في هموم الثقافة، كان يقرأ ما كنت أنشره على صفحات (الطالب)**، ويشاكسني فيه معلقاً وغامزاً. تعرفتُ من خلاله للشعر الجبالي، والأغاني الجبالية، كان يغنيها بصوت رخيم، وعند الانتهاء يقوم بشرح البيت. منه عرفت مصطلح (الأمازيغ)، وكيف أنهم ممنوعون –كمجتمع- من دراسة وتعليم لغتهم، ومن ممارسة عاداتهم وطقوسهم الثقافية والاجتماعية بشكل علني، فشكراً يا “طارق”.

 

كنت أسمع من يقول: إنهم يريدون أن ينفصلوا على ليبيا!!!. ومن يقول: إنهم يريدون الانضمام للجزائر؟!!!. ومن الجانب الآخر: أنتم اللي جيتونا وسكنتوا في أرضنا!!!. وأسمعُ وأسمع، وأسمع.

 

حاولت البحث كثيراً فيما يتعلق بالأمازيغية تاريخياً وثقافياً، لمعرفة الخطر الكبير الذي يجعل الدولة –نظام الطاغية- تقوم بمحاربة أي محاولة للتعريف بهم كقيمة ثقافية وتاريخية، حد منعهم من استخدام اسمائهم التراثية أو التي تعرف في الثقافة واللغة الأمازيغية. هل هم على هذا القدر من الخطر؟، لتوجه الدولة آلتها لمحاولة إثبات الأصل العربي لهم، هل نحتاج هذا الإثبات؟ وهل يحتاجونه؟، وهل يضيف حال تحققه شيئاً؟. بمعنى، إلى أين نريد الوصول؟ هل هو بحث في القصور المعرفي، أو الثقافي؟ أو تشكيك في هوية؟. ولأني أثق في الكتابة –المعرفة- الكتفيت بما تحقق في داخلي واستيقن.

 

أعتقد إن أصل الخوف –خوف نظام الطاغية-، هو استقلال الأمازيغ –كمجتمع- تاريخياً وثقافياً عن المحيط الذي يعيشه جغرافياً (المكان)، وبذات القدر من الانصهار في ثقافة من يجاوره –من مجتمعات-. بالتالي لا يمكن العبث في هذا البعد التاريخي والثقافي، إلا فيما يتماس مع الخط العام للمجتمع في مجمله، أي التاريخ المشترك للمنطقة والثقافة المشتركة للمجتمع. الأمر الذي جعل من الصعب على نظام الطاغية العبث في الهوية الأمازيغية، أو التشكيك فيها، كما حدث في الكثير من مكونات تاريخ المجتمع الليبي بتغييب فترات زمنية، وإظهار أخرى، أو خلق حوادث تاريخية لأشخاص لم يكن لهم من دور، أو تشويه صور شخصيات أخرى، خاصة فيما يخص تاريخ الجهاد الليبي، فكان من الضروري إقصاؤها.

 

إن حكاية الخطر الأمازيغي –المزعوم-، مثلها مثل الكثير من الحكايات التي روج لها نظام الطاغية، بغاية تجهيل المجتمع وإغراقه في دوامة من الخوف والقلق من الجار الساكن بيننا، الذي ينتظر لحظة الغفلة لغرز سكينه في ظهرنا، مما أوجد حالة جفوة كان نتيجتها انحلال النسيج الليبي، والذي عادت ثورة 17 فبراير لرأبه، في تلاحم الثوار يداً واحدة من أجل ليبيا. وإلا لكنا كسبنا بعداً ثقافياً وتاريخياً لمجتمعنا، الذي يزداد غناه بما يقدمه من تشكيله منوعة من ثقافات سكانه، من الشمال للجنوب، ومن الشرق للغرب، ثقافة الساحل وثقافة الصحراء، ثقافة الحضر وثقافة النجوع، ثقافة السهل وثقافة الجبل. إن هذه الثنائيات أو المجموعات الثقافية يمكن أن تكون مصدراً اقتصادياً مهماً لو عرفنا كيف نقدم هذا الغنى المعرفي ونستثمره. بدل أن يحبسنا نظام طاغ، كل همه مزيداً من إحكام القبضة الأمنية، لطمس هوية وإقصاء لغة وثقافة، هي موجودة كمفردات وعادات فيما نتداوله من حديثنا اليومي ونسيج المجتمع الليبي.

 

وهنا أطالب –كمثقف- بفتح التعليم باللغة الأم، لكل المجتمعات التي تتمتع بهوية لغوية خاصة، واستخدام اللغة إعلامياً للتواصل، والتعريف أكثر بما تستطيعه هذه اللغات من قدرة على التحميل المعرفي والإبداعي. مما يساعد أكثر على دمج الثقافات فيما بينها وتفاعلها. وهذا لا يعني الاعتراف باللغة، بقدر ما يعني الاعتراف بهوية مكونة لأحد خيوط النسيج الليبي المميز في تنوع ألوانه وجودة غزله وتماسكه. لنكون كسبنا رهان ليبيا الجديدة.

________________________

* يعود سبب التسمية بـ(الجبالية) لاتخاذهم جبال نفوسة مستقراً لهم، وهي امتداد لسلسة جبال أطلس، وهم يعرفون بأمازيغ الجبل. بينما يطلق على أمازيغ الساحل (الـزّواريّة) نسبة لمدينة زوارة التي يسكنونها.

** الطالب، صحيفة كانت تصدر عن اتحاد الطلبة، وكنت أنشر على صفحاتها نصوصي الشعرية والقصصية، وبعض المقالات، من بداية 1991، حتى تخرجي من الجامعة.

 

 

المقال منشور بمجلة الكاف

الخـطـرُ الأمـازيـغـي