ليبيات 2.. الـــجُـــرح

على كل راس حكمة

قد لا يكون على قدر كبير، يمكنه بالكاد من كتابة اسمه والتوقيع، لكن القول القديم بأن (على كل راس حكمة) ينطبق عليه، فهو كثير الحديث، انفعالي (نيرفو)، غير مبالي (واخدها براس مالها)، خدوم (عوال)، سَمح (طيب)، لا تحس بمعنى الوقت وهو يتحدث، إذ يملك المشهد والمجلس، ويملكك.

اعـتـصـام

يحكي “بو الصغار” كما يُعرف بيننا، كيف قاد أبناءه اعتصاماً أجبروه فيه على دفع الـ200 دينار المنحة المخصص للأبناء، وأن كل حججه وحيله للهروب أو كسر الاعتصام سقطت وهو يدفع المنحة لكل ولد وبنت. أمّا الأم فكان لها نصيب الأسد بالتساوي معه، وهو ما أزعجه وأفسد خططه من أجل إجراء بعض الإصلاحات على الـ90 متراً التي يسكنها.

الجرح

رغم إنه لا ينتمي إليها، إلا إنه يتحدث عنها بحرقة وألهم، وتكاد تلمح دمعة محبوسةً وهو يطلق يده محاولاً إسكات محاوره ليملك ناصية الكلام يقول: ما يحدث في بني وليد كارثة بكل المقاييس، الدم الذي يسيل هو دم ليبي، والإنسان الذي يموت، هو إنسان ليبي. بني وليد تضعنا أمام حقيقة أنفسنا، ما يحدث لا يرضاه الله ولا رسوله. بني وليد اختبارنا الحقيقي لمعرفة صدق ثورة 17 فبراير، إنه امتحان الصبر ومواجهة الشيطان الذي يسكننا. بني وليد قطعة من ليبيا، لا يمكن الحياة بدونها ولا يمكنها الحياة بدون ليبيا. علينا جميعاً تحمل المسؤولية.

يعلق أحدهم: وكيف يكون الحل في رأيك؟

يرد: بالحكمة، والتروي.. الدولة لم تتعامل بحكمة اللازمة مع ورفلة، أخذتهم بالعصبية والقوة، ولم تصغ إلى مطالبهم، بل تركتهم وهمشتهم عقاباً لهم، مما زاد المشكلة وفاقمها، فكانت ردة الفعل عناد وتسكير راس. هم الآن في موقف المظلوم، وكان على الدولة النزول إليهم، وأخذهم بالسياسة، بدل تجريد القوات، وطلق الصغار والشباب باش ينفسوا على روحهم. وأقول لك؛ من الصعب دخول (بني وليد) ولو دخل الجيش والثوار سيكون هناك الكثير من القتلى، وسيكون الأبرياء من النساء والأطفال هم الضحية. وهذا ما يبشرش بشي طيب، على العكس، حيزيك الحقد والكره والعناد، ويبدى ثاري وثارك.

يتوقف حتى يعدل نظارته، ويستمر: (بن وليد) جرح كبير، وكانا ماهتميتش بيه حيفسد ويعفن، وحيمرض الجسم كله، ويفسد.

قحوص

يقول لي وهو يبتسم: أنا صبراتي، خوالي من مصراته، ونساباتي من الزنتان، ونسكن في سوق الجمعة. يعني قحصي من كل جيهه.

أرد عليه: إنت مش قحصي.. إنت قحوص.

وننطلق في ضحكة.

وَقـت

أقول: وشن رايك في حال البلاد؟

يقول وهو يسحب نفساً من سيجارته: البلاد تبي وقت باش تتعدل. الوقت لابد منه، حتى تتعافى الجراح، وتندمل آثارها، ويبرد الدم، ويخش البنادم زحمة الدنيا وينسى، تتعمر البلاد وترتاح.

وطنية

يفاجأني دخوله:

– اسمع، برا لحّق!!!

– شن في، خير إن شاء الله؟؟!!!

– هاوينه “…….” يوزع في الوطنية، برا لحق على حاجة.

يعلق:

– قبل يوزعوا في الثورية، وتوه الثورية والوطنية جملة.

تمشيط

يحكي: سألت أحدهم عن سيارته الجديدة، قولي: شاريها ولا الله أكبر.

فرد عليه: الله أكبر ولله الحمد.

يبتسم “بو الصغار”: يعني امشطها وتاملها وراقيها.

ضياع

قالك الساعدي لما ضيع الريقولي روح حوشهم متنكد. خشت عليه أمه في الليل لقاتا فايق. قالتله: خيرك. رد عليها: ضيعت ريقولي.. رجعت الساعة 1 لقاتا فايق: خيرك. رد عليها: ضيعت ريقولي يام.. خشيت عليه قريب الفجر: تي خيرك قاعد فايق. رد عليها: يااااااااام ضيعت ريقولي.. ردت عليه: تمرقد، بوك مضيع بلاد بحالها، وراقد مالمغرب.

ليبيات 2.. الـــجُـــرح

ثقافة الهدم

1

لقد تقصدت ألا أكتب حول هذا الموضوع، لحظة تفاعله على مشهد الأحداث في ليبيا، حتى لا تكون كتابتي انفعالية، وصورة مباشرة لتأثير اللحظة، كوني كنت على الجانب الأخر من الفكرة. ورغم أني عبرت من خلال مدونتي* عن وجهة نظري بطريقة مباشرة وصريحة تبرّأت فيها مما حدث، إلا أني هنا سأحاول مناقشة الفكرة؛ خاصة بعد مجموعة التعليقات التي وصلت.

2

تعتمد الثقافة –ثقافة أي أمة أو مجتمع- على مبدأ التواصل لا الانقطاع، والبناء لا الهدم. بمعنى، التواصل الثقافي في داخل النسيج الثقافي ذاته أو مع ما يوازيه أو ما يقابله من ثقافات، بالتالي يقوم على توسعة قاعدته المعرفية، لبناء قواعد ثقافية جديدة ومبتكرة لتطوير آليات تعايشه. وعلى هذا المبدأ قامت الدولة الإسلامية الكبرى والتي امتد أثرها الثقافي خارج حدود ممالكها لتأسر الجميع وتشدهم إليها.

الثقافة تقبل لا ترفض، وتجاولا لا تقصي. وهذا يعني الحوار وقبول الأخر نداً دون أي افتراضات مسبقة، ولا يمكن لهذا الحوار ليكون إلا بالتجاور. ويقدم التاريخ الإسلامي الكثير من النماذج لهذا التجاور والحوار الندّي القائم على فهم ثقافة الآخر واستيعابها.

هذا في علاقة الإسلام بالثقافات الأخرى، أما في ذات المجتمع الإسلامي، فالإسلام لم ينكر أي ممارسة ثقافية أو معرفة، إلا فيما يتعارض مع العقيدة، أما ما يتعارض مع الشريعة من ممارسات فقد تعامل معها من مبدأ (إنما الدين النصيحة)، التي تعتمد بيان الحقيقة بالحوار والإقناع، فالدين الإسلامي يُكبر من شأن العقل والتفكير لإدراكه ما لهما من دور في قبول الأفكار الجديدة.

3

بعد هذه المقدمة، أتجه مباشرة للموضوع الأساسي لهذا المقال، وهو ما حدث خلال الفترة الماضية من هدم لبعض الأضرحة والقبور الخاصة بالأولياء، وسأحاول أن أقصد النقاط التي أريدها بطريقة مباشرة.

يقول الإمام “الشافعي” رحمه الله (ما حاججت عالماً إلا غلبته، وما حاججني جاهل إلا غلبني)، والقصد إن الجاهل لفقده الحجة وأسلوب الإقناع العلمي والمعرفة يصر على جهله، دون تقبل لأي فكرة خارج ما يؤمن به، أما العالم، فعلمه يمكنه من الاستنتاج والوصول للحقيقة، والتي ينحاز إليها بغض النظر عمن وصل أولاً. هذه القاعدة مهمة، خاصة في الأمور الخلافية، التي تُقلب على أكثر من وجه، حيث من حق كل طرف القول بما يرى، داعماً رأيه بما يستطيع من أسانيد وحجج، دون أن يفرضها على الطرف الآخر، أو من هم خارج دائرة العلم. ومسألة هدم القبور والأضرحة، من المسائل الخلافية، بالتالي لا يحق لطرف ما أن يقوم باستغلال ظرفٍ ما، وباستخدام القوة لتطبيق ما يراه، دون أي وجه حق شرعي –ديني أو وضعي-، فحتى من قال بإزالة القبور والأضرحة أكد على ضرورة أن تزال بيد ولي الأمر، لا أن يترك الأمر مفتوحاً مخافة الفتنة.

وما حدث يضعنا أمام ثلاث مفاصل أساسية، الأول: هو الخروج دون شرعيّة (انتهاء حرمة القانون)، الثاني: فرض وجهة نظر بعينها (إقصاء الطرف الآخر)، الثالث: استخدام القوة للتطبيق (قهر الآخر). وهذه المفاصل تبين مقدار ما ارتكب من انتهاكات بحق الآخر، سواء كان هذا الآخر فرد أو مجموعة، مجتمع أو دولة. وهذه المفاصل تجتمع في كونها تتفق في هدمها لمبدأ الحوار والتواصل.

4

استندت أكثر دفاعات الهدم، على اتخاذ الناس (العامة كما في تعبير من قام بالهدم)، من هذه القبور والأضرحة مزارات وأماكن للتقرب للأولياء بالذكر والذبح، وأيضاً أماكن لدفن السحر وافتعال أعمال الدجل والبدع، وهو مالا يقره الشّرعُ الحكيم، ولا تتقبله العقول السليمة.

والمسلم العاقل، يدرك أن هذه الأعمال لا تمت للدين بأي صلة، إنما هي نتيجة تراكمات من سنوات الجهل والعجز والعوز، الذي ألجأ ضعاف الإيمان إلى هذه الأضرحة للتقرب وطلب الحاجات، في غياب التوعية، والدعوة الصحيحة لدين الله؛ وهو العمل الذي غفل الكثير عنه، مكتفين بدروس الفقه في المساجد والخلوات والحلقات، أو دروس عذاب القبر وأهوال القيامة، دون الخروج للدعوة وتوعية العباد، وبصيرهم أمور دينهم خاصة ما يتعلق بالعقيدة والمعاملات.

فكما يؤكد “نيوتن” أنه (لكل فعل رد فعل؛ مساوٍ له في المقادر، ومضاد له في الاتجاه)، فإن هدم القبور والأضرحة وتفجيرها (كفعل)، سيكون نتيجته التسمك بها أكثر حتى في غيابها (كرد فعل)، بذات المقدار من قوة تطبيق الفعل، وفي الاتجاه الذي يعاكس نية الهدم (لله)، ناحية تحويلها –أي الأضرحة والقبور- إلى أساطير وملاحم، وهو ما يظل راسخاً أكثر من الفعل ذاته، كونه النتيجة النهائية والمتحققة، فالفعل ينتهي ويبقى رد الفعل ليحقق النتيجة. خاصة وإن هذه المقامات لم تقم لهذا الغرض في أساسها، إنما هي قور صحابي جليل، أو مرابط نذر نفسه لله، أو عالمٍ متفقه، وهي بعيداً عن هذا كله، تمثل قيمه تاريخية وثقافية لتاريخ البلاد، وهدمها بهذا الشكل إنما يعمل على محوها من ذاكرة المجتمع واختفائها تدريجياً منه، وبالتالي لا تفقد البلاد معلماً بقدر فقدها ذكرى شخصية ساهمت في كتابة تاريخها.

5

في ظني إن أسلوب الدعوة هو الأسلوب الصحيح لتغيير الكثير من الثقافات، وتغيير الكثير من الممارسات وتوجيهها بالاتجاه الصحيح، بحيث يتم بناء علاقة على أساس التواصل والحوار، وفتح قناة معرفية هدفها إظهار الحقائق بنية الإقناع، حتى يكون فعل الترك والتخلي عن الممارسات غير السليمة الممارسة عند القبور والأضرحة نابعاً من الإنسان ذاته، بالتالي تتحقق الفائدة أكثر، ويكون المجتمع في عمومه واعياً بحقيقة ما يمارس. ليعود التواصل والحوار ممارسة يومية ترقى بالمجتمع. وبالتالي يتم الحفاظ على هذه الأماكن كمعالم، مفرغة من الممارسات الخاطئة.

ثقافة الهدم لا تولد إلا هدماً مثله. كأحجار الدومينو، يكفي أسقاط الأولى لينتهي الأمر بها جميعاً ساقطة. ومهما كان الشكل الذي اتخذته، إلا إنه في حقيقته هدم، لا شيء، لا فائدة، ولا غاية مرتجاة.

_____________

* يمكن مراجعة الرابطين التاليين: (http://mellakheer.ramez-enwesri.com/?p=205) و(http://mellakheer.ramez-enwesri.com/?p=214)

نشر بمجلة الكاف الإلكترونية

ثقافة الهدم