ثقافة الهدم

1

لقد تقصدت ألا أكتب حول هذا الموضوع، لحظة تفاعله على مشهد الأحداث في ليبيا، حتى لا تكون كتابتي انفعالية، وصورة مباشرة لتأثير اللحظة، كوني كنت على الجانب الأخر من الفكرة. ورغم أني عبرت من خلال مدونتي* عن وجهة نظري بطريقة مباشرة وصريحة تبرّأت فيها مما حدث، إلا أني هنا سأحاول مناقشة الفكرة؛ خاصة بعد مجموعة التعليقات التي وصلت.

2

تعتمد الثقافة –ثقافة أي أمة أو مجتمع- على مبدأ التواصل لا الانقطاع، والبناء لا الهدم. بمعنى، التواصل الثقافي في داخل النسيج الثقافي ذاته أو مع ما يوازيه أو ما يقابله من ثقافات، بالتالي يقوم على توسعة قاعدته المعرفية، لبناء قواعد ثقافية جديدة ومبتكرة لتطوير آليات تعايشه. وعلى هذا المبدأ قامت الدولة الإسلامية الكبرى والتي امتد أثرها الثقافي خارج حدود ممالكها لتأسر الجميع وتشدهم إليها.

الثقافة تقبل لا ترفض، وتجاولا لا تقصي. وهذا يعني الحوار وقبول الأخر نداً دون أي افتراضات مسبقة، ولا يمكن لهذا الحوار ليكون إلا بالتجاور. ويقدم التاريخ الإسلامي الكثير من النماذج لهذا التجاور والحوار الندّي القائم على فهم ثقافة الآخر واستيعابها.

هذا في علاقة الإسلام بالثقافات الأخرى، أما في ذات المجتمع الإسلامي، فالإسلام لم ينكر أي ممارسة ثقافية أو معرفة، إلا فيما يتعارض مع العقيدة، أما ما يتعارض مع الشريعة من ممارسات فقد تعامل معها من مبدأ (إنما الدين النصيحة)، التي تعتمد بيان الحقيقة بالحوار والإقناع، فالدين الإسلامي يُكبر من شأن العقل والتفكير لإدراكه ما لهما من دور في قبول الأفكار الجديدة.

3

بعد هذه المقدمة، أتجه مباشرة للموضوع الأساسي لهذا المقال، وهو ما حدث خلال الفترة الماضية من هدم لبعض الأضرحة والقبور الخاصة بالأولياء، وسأحاول أن أقصد النقاط التي أريدها بطريقة مباشرة.

يقول الإمام “الشافعي” رحمه الله (ما حاججت عالماً إلا غلبته، وما حاججني جاهل إلا غلبني)، والقصد إن الجاهل لفقده الحجة وأسلوب الإقناع العلمي والمعرفة يصر على جهله، دون تقبل لأي فكرة خارج ما يؤمن به، أما العالم، فعلمه يمكنه من الاستنتاج والوصول للحقيقة، والتي ينحاز إليها بغض النظر عمن وصل أولاً. هذه القاعدة مهمة، خاصة في الأمور الخلافية، التي تُقلب على أكثر من وجه، حيث من حق كل طرف القول بما يرى، داعماً رأيه بما يستطيع من أسانيد وحجج، دون أن يفرضها على الطرف الآخر، أو من هم خارج دائرة العلم. ومسألة هدم القبور والأضرحة، من المسائل الخلافية، بالتالي لا يحق لطرف ما أن يقوم باستغلال ظرفٍ ما، وباستخدام القوة لتطبيق ما يراه، دون أي وجه حق شرعي –ديني أو وضعي-، فحتى من قال بإزالة القبور والأضرحة أكد على ضرورة أن تزال بيد ولي الأمر، لا أن يترك الأمر مفتوحاً مخافة الفتنة.

وما حدث يضعنا أمام ثلاث مفاصل أساسية، الأول: هو الخروج دون شرعيّة (انتهاء حرمة القانون)، الثاني: فرض وجهة نظر بعينها (إقصاء الطرف الآخر)، الثالث: استخدام القوة للتطبيق (قهر الآخر). وهذه المفاصل تبين مقدار ما ارتكب من انتهاكات بحق الآخر، سواء كان هذا الآخر فرد أو مجموعة، مجتمع أو دولة. وهذه المفاصل تجتمع في كونها تتفق في هدمها لمبدأ الحوار والتواصل.

4

استندت أكثر دفاعات الهدم، على اتخاذ الناس (العامة كما في تعبير من قام بالهدم)، من هذه القبور والأضرحة مزارات وأماكن للتقرب للأولياء بالذكر والذبح، وأيضاً أماكن لدفن السحر وافتعال أعمال الدجل والبدع، وهو مالا يقره الشّرعُ الحكيم، ولا تتقبله العقول السليمة.

والمسلم العاقل، يدرك أن هذه الأعمال لا تمت للدين بأي صلة، إنما هي نتيجة تراكمات من سنوات الجهل والعجز والعوز، الذي ألجأ ضعاف الإيمان إلى هذه الأضرحة للتقرب وطلب الحاجات، في غياب التوعية، والدعوة الصحيحة لدين الله؛ وهو العمل الذي غفل الكثير عنه، مكتفين بدروس الفقه في المساجد والخلوات والحلقات، أو دروس عذاب القبر وأهوال القيامة، دون الخروج للدعوة وتوعية العباد، وبصيرهم أمور دينهم خاصة ما يتعلق بالعقيدة والمعاملات.

فكما يؤكد “نيوتن” أنه (لكل فعل رد فعل؛ مساوٍ له في المقادر، ومضاد له في الاتجاه)، فإن هدم القبور والأضرحة وتفجيرها (كفعل)، سيكون نتيجته التسمك بها أكثر حتى في غيابها (كرد فعل)، بذات المقدار من قوة تطبيق الفعل، وفي الاتجاه الذي يعاكس نية الهدم (لله)، ناحية تحويلها –أي الأضرحة والقبور- إلى أساطير وملاحم، وهو ما يظل راسخاً أكثر من الفعل ذاته، كونه النتيجة النهائية والمتحققة، فالفعل ينتهي ويبقى رد الفعل ليحقق النتيجة. خاصة وإن هذه المقامات لم تقم لهذا الغرض في أساسها، إنما هي قور صحابي جليل، أو مرابط نذر نفسه لله، أو عالمٍ متفقه، وهي بعيداً عن هذا كله، تمثل قيمه تاريخية وثقافية لتاريخ البلاد، وهدمها بهذا الشكل إنما يعمل على محوها من ذاكرة المجتمع واختفائها تدريجياً منه، وبالتالي لا تفقد البلاد معلماً بقدر فقدها ذكرى شخصية ساهمت في كتابة تاريخها.

5

في ظني إن أسلوب الدعوة هو الأسلوب الصحيح لتغيير الكثير من الثقافات، وتغيير الكثير من الممارسات وتوجيهها بالاتجاه الصحيح، بحيث يتم بناء علاقة على أساس التواصل والحوار، وفتح قناة معرفية هدفها إظهار الحقائق بنية الإقناع، حتى يكون فعل الترك والتخلي عن الممارسات غير السليمة الممارسة عند القبور والأضرحة نابعاً من الإنسان ذاته، بالتالي تتحقق الفائدة أكثر، ويكون المجتمع في عمومه واعياً بحقيقة ما يمارس. ليعود التواصل والحوار ممارسة يومية ترقى بالمجتمع. وبالتالي يتم الحفاظ على هذه الأماكن كمعالم، مفرغة من الممارسات الخاطئة.

ثقافة الهدم لا تولد إلا هدماً مثله. كأحجار الدومينو، يكفي أسقاط الأولى لينتهي الأمر بها جميعاً ساقطة. ومهما كان الشكل الذي اتخذته، إلا إنه في حقيقته هدم، لا شيء، لا فائدة، ولا غاية مرتجاة.

_____________

* يمكن مراجعة الرابطين التاليين: (http://mellakheer.ramez-enwesri.com/?p=205) و(http://mellakheer.ramez-enwesri.com/?p=214)

نشر بمجلة الكاف الإلكترونية

ثقافة الهدم

محاولة اعتراف

 

 

 

لستِ جميلة،

لكن ابتسامتكِ تعيدُ ترتيب الحاضرين

يشدهم الخطُّ الأبيض عند شفتيك،

وتنزلهم يداك.

 

لم تكوني مرّةً، جميلة

لك مداركِ يجمع النجومَ إليه

فيعيدُ تكوير المجرة، لتسكن الشمس إليك

وجهاً

جبيناً

ندورُ، لا حول لنا

ولا قوةَ إلا إليك.

 

لستِ، ولم تكوني

ويتسع،

لنهوي جميعاً أسرى

يرفعنا وشاحكِ إذا سقط

ويهزمنا خيطكِ الرفيع، عند انتهاء الحفل.

 

الـ103: 29-8-2012.

 ***

[( تفاعل النص في منتديات من المحيط للخليج )]

[( تفاعل النص في منتدى الكلـمة نغــم الأدبـــي )]

[(  تفاعل النص في منتديات تجمع شعراء بلا حدود )]

محاولة اعتراف

ليبيا .. الأمن والأمان

1

الحقيقة التي يجب أن نعرفها، أن ما كانت تعيشه ليبيا لم يكن أماناً؛ إنما قبضة أمنية.

2

شيء لا يمكنني تفسيره، فبالرغم من كوني متفائلاً بالغد –غد ليبيا-، وكلي أمل في خروج ليبيا من مأزقها؛ وأن ما تمر به ليبيا إنما هو حالة صحية، يعكس ارتفاع درجة حرارتها تماثل الجسم للشفاء، ودليل على مقاومة خلاياه للمرض. فلماذا إذن، تنفجر الأمور بمثل هذا الشكل، أمنياً؟.

3

المسألة في زعمي بدأت باكراً. وتحديداً عند الإعداد لتحرير طرابلس، عندما تم عرض الخطة الأمنية الخاصة بتأمين طرابلس –العاصمة-، والتي ستنفذ فور التحرير. وتفننت القنوات بعرضها حركياً ومعلوماتياً.

وتحررت طرابلس، ولسببٍ ما لم يتم تنفيذ خطة الأمنية لتأمين العاصمة.

4

إضافة لما ذكر عن عدم تطبيق الخطة الأمنية المعلن عنها لتأمين العاصمة، ثمة أسباب أخرى جعلت الوضع يصل إلى ما هو عليه، من اضطراب أمني وتضارب ونشوء بؤر توتر في ليبيا، أهمها:

– الاستعجال في إعلان التحرير، وربطه بمقتل الطاغية. بالرغم من أنه ثمة أكثر من مدينة كانت غير محررة. وكان من الضروري أن يكون إعلان التحرير مقروناً بالتحرير الكامل لليبيا من بقايا نظام الطاغية.

– المسألة الثانية، هو التهاون الكبير من قبل المجلس الوطني في الإسراع بفرض سيطرته على المواقع والمراكز المهمة، التي سيطرت عليها كتائب الثوار. فكان الوقت المتسرب في صالح أشباه الثوار والمتسلقين وضعاف النفوس، وبقايا النظام للتجمع وتكوين تجمعات وكتائب وهمية، همها ترويع الآمنين وضرب المجتمع في ثورته.

– مسألة أخرى تضاف لسابقاتها، ألا وهي التأخر في تفعيل الشرطة والجيش، وعدم وجود خطة واضحة المعالم لذلك، وكأن ثمة يداً خفية تقف وراء نية التفعيل، الأمر الذي تأصلت معه الكتائب والمفارز وتحولت كل واحدة إلى جيش مستقل يملك عسكره وسلاحه، وحتى وإن كان بعضها تابعاً للجيش أو اللجنة الأمنية، إلا إنها تتمتع باستقلالية وتتحرك بمعزل عنهم، وهذا ما نعايشه.

– وكنتيجة للنقطة السابقة، تمركزت هذه الكتائب والمفارز في مدنها، وتركت ممثلين لها في طرابلس، وعملت على حماية مناطقها. بالتالي فإن المدن التي لم يتم التعامل معها بشكل نهائي، ظلت بؤراً للتوتر والقلق. وهو الوقت الذي مكنها من البقاء أكثر والاستمرار في تأثيرها السلبي.

– اعتماد بناء الحكومة الأولى على المحاصصة، خاصة فيما يتعلق بالجيش ووزارة الداخلية، الأمر الذي ركز الاعتماد في بناء الشرطة والجهاز الأمني والجيش على الولاءات، بالتالي لم يتم ضم كتائب الثوار كأفراد؛ وهو ما كان واجباً ومفروضاً، بل تم ضمها ككيانات، ظلت تحت أمرة أمرائها –كما أشرنا سابقاً-.

– المسألة قبل الأخيرة، هي عدم التعامل مع نقاط التوتر بالحكمة والصرامة المطلوبة، وتركت الأمور في أغلبها للوقت، مما راكم الأزمة أكثر. إذ افترضت بعض الأحداث التعامل السريع معها، واستخدام بعض الصرامة لمعالجتها. خاصة وإن مساحة ليبيا الجغرافية، الكبيرة نسبياً، تجعل من سرعة التنقل والإمداد أمراً ليس من السهل التعامل معه، خاصة فيما يتعلق بأمن الحدود، في قصور الطيران العسكري، الذي عمل نظام الطاغية على كسر أجنحته.

– المسألة الأخيرة، الواجهة القبلية، التي تبرز عندما تميل كفة المعتدي، أو عندما يجد نفسه في مواجهة القوة، فيتم اللجوء إلى شيوخ القبائل والعائلات لحل المشاكلة وتثبيت الأوضاع، الأمر الذي يجد فيه البعض مهرباً من العقاب، وكأن أرواح من أزهقت رخيصة.

5

إن السرعة والحكمة من أهم الأمور التي على الحكومة القادمة مراعاتها فيما يتعلق بمسألة الأمن والأمان في ليبيا. السرعة في تكوين جهاز أمني قوامه الشرطة والجيش، والحكمة في حل التوتر الذي تمثله، وهو الرهان الذي على حكومة “أبوشاقور” كسبه، وإنجازه.

***

نشر بصحيفة الكاف الإلكترونية

ليبيا .. الأمن والأمان

ليبيات 1 … المعادلة الليبية

المعادلة الليبية 1

(ليبيا بدويةٌ شرسةْ

تحب حين تحب من تشاءْ

وتكره حين تكره من تشاءْ

تسقي العابرين القاحلين،

بدلوٍ من أجاجٍ وغناءْ

وتستسلم لمن يطوقها بالقوافي

وينفذ إلى قلبها على صهوة الخيالْ)* “ليبيات 1 … المعادلة الليبية” متابعة القراءة

ليبيات 1 … المعادلة الليبية

أدباء ليبيون يكسرون طوق الرقيب الأعمى

خلود الفلاح

الحراك الشعبي الذي شهدته دولنا العربية كان له تأثيره في حركة المجتمع، وكان الأدب واحدا من المجالات التي تأثّرت بثورات الربيع العربيّ، وإن كان هذا التأثير ما يزال في بداياته حتّى أن المفردة الإبداعية لم تتشكل فيه كفاية، إلا أن الآفاق التعبيرية في القول الشعري الليبي بعد الثورة بدأت تتنفس أكسجينها الخاص. وفي هذا الشأن، حاورنا مجموعة من الشعراء الليبيين من مختلف الأعمار والتجارب الشعرية حتى نقف على بعض مظاهر التأثّر.

*رامز النويصري: إعادة إنتاج القيم في رموز وأيقونات

لا نستطيع الجزم بتأثير ثورة 17 فبراير المباشر في الأدب الليبي، بمعنى أنه يمكننا لمس هذا الأثر في صور وإحالات ورموز، فطبيعة الإنتاج الأدبي تعتمد على إعادة إنتاج الحالة أو اللحظة في صورة جمالية، وهذا ما يجعل المبدع يحتاج الي كثيرمن الوقت ليعيشها أو لنقل لمعايشتها بغية الوصول لنصه.

فالنص الحديث يعتمد على الرصد وبناء الأنساق الشعرية. فالحرية –على سبيل المثال- كقيمة إنسانية كبرى، لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال معايشتها، التي لا تأتي في يوم أو شهر. فالشاعر –أو المبدع- يبحث دائماً عن الإبهار، من خلال ما يستطيعه من بحث عن القيم التي يمكنه إعادة إنتاجها في رموز وأيقونات، ذات مرجعيات ثقافية.

الوجه الثاني للمسألة، هو الحرية بمعنى الانطلاق في التعبير، ونعني رفع سقف حريته لرصد تجارب إبداعية جديدة، مختلفة، وموضوعات مسكوتٌ عنها، تفتح الباب على مستويات إبداع ظلت حبيسة لعهود.

والمميز في المشهد الإبداعي الليبي –الآن، بعد 17 فبراير- هو القصة القصيرة، فهذا الجنس الإبداعي من خلال ما نشر من نصوص استطاع بمرونة رصد الحراك الليبي، ومقاربته، وملامسة بعض الكتاب تفصيلات حكائية. في الشعر، نقرأ الصورة على جزأين، في الأول يأتي النص التقليدي في قدرته على التعبير المباشر للحدث أو القيمة، وفي الثاني، نطالع بعض النصوص الحديثة التي تحاول موازاة الحدث أو القيمة من خلال التعويل على الرصيد العام، وتشكيل صور شعرية وتراكيب جديدة.

في ظني أنه علينا الانتظار قليلاً لقراءة نص مغاير يكون ابنًا شرعياً لثورة 17 فبراير.

*عبد الباسط ابوبكر محمد: هل تصنع الثورات شعراءها؟

أعتقد أن الأفق المفتوح الذي منحته الثورة للجميع، انعكس على الشعراء من ناحيتين: شعراء كانوا يحلمون بالتغيير ويرسمون بنصوصهم الضوء الذي لم يره في نهاية النفق غيرهم، وعندما يأتي “الضوء” يبهرون من هذا الكيان الجديد “الثورة” يقفون على مسافة وسطية بين المشاركة والامتناع، هل هي الثورة التي يحلمون بها ،أم أنها كائن داجن لا علاقة لهم به؟.

وشعراء جدد هم نتاج الثورة، وأقلامها التي واكبتها من اليوم الأول فعلاً وكتابة، شعراء عايشوا لحظة تحقق الحلم من اللحظات الأولى، وحفروا مسار الثورة بقوة وثقة.

القصيدة قبل الثورة كانت تحت” عين الرقيب”، الرقيب الذي صنعته الدولة الأمنية ، الأمر الذي جعل القصيدة تناور الكثير من العقبات، وتتنقل وسط حقول هائلة من الألغام وتفرز أدب مقاومة حقيقي ، حيث استطاعت أن تمرر همومها وتقول كلمتها رغم كل شيء، قصيدة كانت تبحث عن أفق متسع للتعبير، فرسمت ببحثها هذا كيانها الجميل.

القصيدة بعد الثورة، هي بنت أصيلة للحرية صنعت نفسها بثقة الثورة، وتماهت مع التغيير، وأفرزت نصوصها الحقيقية تحت مظلة الأفق المفتوح، الثورة صنعت شعراء حقيقيين.

الشعراء ” في الحالتين” أمام مفترق الطرق، عليهم أن يعايشوا التغيير، على الحالة الأولى أن تستوعب التغيير، وعلى الثانية أن لا تتوقف عند قصيدة الثورة، فالشعر حياة متشظية متنوعة ومستمرة، على القصيدة أن تشكل أفقها الحر المفتوح، أن تنتج نصوصها الجديدة التي تحتفي بالحياة والغد والحلم.

* سالم العوكلي: في تجربتي السابقة أتحاشى التنظير للموت

الشعر يسكت لحظة الأحداث الكبيرة، خصوصا القصيدة الحديثة، التي تحتاج إلى مسافة بينها وبين الحدث لتقف على شحناته الإنسانية وشيمه الخالدة، وإلا فإنها ستكون قصيدة مناسبة أو تنحو بالشعر تجاه التحريض كتقليد قديم كان من مسؤولية الشاعر في غياب المؤسسة الإعلامية.

الشعر الحديث يستعيد كينونته الأصيلة. ربما الشاعر لا تفاجئه التحولات الكبرى لأنه بطبيعته راصد لتلك التحولات الصغيرة التي تفضي إليها.

بعد ثورة فبراير في ليبيا لم أكتب إلا قصيدة واحدة هي: رؤيا الشهيد. كانت تلح عليّ كي أعتذر عبرها من اللغة ومن المفهوم ذي الحكم المسبق على المفردة بعد أن تستعيد سحرها وجماليتها.

كنت في تجربتي السابقة أتحاشى المفردات التي توحي بالعنف أو بالتنظير للموت في قصيدتي، مفردات مثل الجهاد أو الشهيد أو غيرها، حين زرت يوم 17 فبراير 2011 جثامين أول خمس شهداء في مدينتي درنة، اكتشفت تلك اللحظة ،وأنا أتأمل ملامحهم، مفهوما مختلفا لمفردة الشهيد.

ورغم الحزن العميق كان ثمة جمال يتسرب من ملامحهم لأنهم يموتون من أجل قيمة إنسانية عظيمة وهي الحرية، شباب يرتدون أحدث الموضات، شعورهم مسرحة بطريقة رائعة، في عيونهم نصف المفتوحة أحلام كثيرة مازالت تلمع .. كتبت قصيدتي لأعتذر منهم ومن سحر الكلمات حين تستعيد ثراءها وجمالها بعدما طالها التلوث.

أما مفهوم الحرية في القول الشعري، فهو لصيق بالقصيدة وهو سؤالها الدائم لأن الطغيان ليس سياسيا فقط لكنه اجتماعي وديني لأنه من الممكن أن يتولد عن الحضارة نفسها والمؤسسة التي تحوّل الكائن الإنساني إلى آلة أو رقم حتى في المجتمعات الحرة والديمقراطية، الشعر شرطه الأخلاقي الوحيد أن يتساءل بشأن الكائن ومصير الإنسان دائما.

*عمر الكدي: ازدهار النثر وقوة الشعر

في تقديري سيزدهر النثر في ليبيا أكثر من الشعر، لأن المجتمع في حاجة لرواية ذاته خلال العقود الأربعة المنصرمة التي منع فيها التعبير بشدة، وأعتقد أن الشعر قام بمهمته بكل نجاح خلال المرحلة الماضية، عندما كان يتكئ عليه المبدعون أكثر من النثر، لأن لديه القدرة على الإيماءة والإشارة من بعيد بسبب قدرته على استخدام الفنون البلاغية مثل التورية والاستعارة.

*فرج أبو شينة: هامش الحرية لدى الشاعر يساوي المتن

يقول هايدجر ” في القول يكمن الوجود”. أيّ قول يعنيه هايدجر؟ وأي وجود؟ في هيمنة كهذه، حيث الملك أو الرئيس هو الإطار الوجودي المحض.. لا قول، ولا وجود في كنف السلطة الغاشمة. إذا أردت أن تقول فقل نعم أو اصمت. ولكن الشاعر الحقيقي لا يقوى على السكوت المتخاذل. يشعر بمغص في حنجرته.. ورغبة حقيقية في تقيؤ الحياة.

في ظل النظام السابق كان الشاعر يتنفس زفيره. هم قلّة من تجرأوا على استنشاق الهواء النقي الخالي من الهيمنة لكنهم دفعوا الثمن باهظا. سجن أبى سليم يشهد على ذلك.

هامش الحرية لدى الشاعر يساوي المتن. وحرية القول، ليس فيما يكتبه فقط.إنما فيما يراه من إصلاحات سياسية ومن تحولات معرفية. الشاعر الذي بلا موقف هو بلا ظل.

كذلك رئة الشاعر في الأصل تستوعب كلّ أكسجينات السلطة الطريّ منها والمختنق. لديه مقدرة على التحايل والقول. لديه رئة احتياطية يوفق أحيانا في استعمالها. وأحايين أخرى يفشل. طبعا، تتوقف على مقدرته في استخدام الرمز كقناع وكمكروفون. كثيرون استطاعوا استخدامه. قالوا قولهم.في حضور الشمس. ولم يهابوا تهديدات العتمة.

الآن الأمر اختلف، وعلى الشاعر أن يختلف هو الآخر.. لا أن يتخلّف، يختلف في نظرته للواقع..في نظرته للحياة الجديدة البريئة من السياجات والأسلاك الشائكة والأسوار العالية السميكة.كذلك – وهذا مهم – أن يعيد النظر في قوله لأنه ليس كما كان. “إما خائفا أو خجولا أو مرتبكا أو متواطئا”. الدولة الحديثة المرتقبة سوف تكون رئة تسمح للجميع بالتنفس.

هامش القول اتسع بالفعل ، في الصحافة كثيرون من نقدوا المجلس الانتقالي في بعض سياساته الارتجالية أحيانا.

وفي الفيس بوك”الهامش الأكثر اتساعا للقول” نقرأ الكثير من الانتقادات حول المجلس الانتقالي وأعضائه. هذه سابقة جميلة لم تحدث منذ سنوات عدة في ظل نظام واحد ومهيمن.

بالفعل علينا أن نعيد النظر في أدواتنا الصوتية. أن نقول ما يجب قوله. لا أن نستغل هذه الهبة المقدسة لنتحرش ونشاكس ونثير بعض الزوابع بطريقة طفولية غير مسؤولة لا لشيء سوي لاستهلاك حرية القول فيما لا يعنيه. القول الذي لا يبني ينهدم على صاحبه.

القول الذي تشرق منه الشمس يكون بردا وسلاما على النوافذ. فلنقل ما يجيش بداخلنا حيث لا سياج ولا قفص ولا سقف أيضا. السماء رحبة.. والرئة تستوعب كل الأكسجينات. والاختناق غير وارد بالمرّة.

* هليل البيجو: الخطاب الأدبي الليبي يحمل حلما إنسانيا

الأدب الليبي لم يفتأ ينشد الحرية ويصبو إلى الخلاص وهو غير مقطوع عن الهم الإنساني، ولعل شيوع الحرمان لهذا الأدب بصوره العديدة أكبر دليل على مدى الإحساس بالنقص والحاجة الملحة للسمو بالنفس والتحليق بها في عوالم لا يحدها حد ولا يمنعها شد، وإذا أردنا الحديث عن الخطاب الأدبي الليبي بعد ثورة 17 فبراير فإننا نقول إن الوقت ما زال مبكرا لمعرفة ظواهر ومفردات تؤثر في هذا الخطاب أو تلقي ظلالا عليه.

وما ينبغي لنا التفكير فيه هو أن الخطاب الأدبي الليبي خطاب يحمل في طياته حلما إنسانيا نبيلا لم يعبأ بواقعه المرير وانطلق بعد الثورة محاولا ترتيب أوراقه واختبار ما بين يديه من مكتسبات يعتقد أنه مهد لها وعمل من أجلها.

______________________

نشر بصحيفة العرب .. 17-9-2012/ العدد: 9056

http://www.alarab.co.uk/previouspages/Alarab%20Daily/2012/09/17-09/p14.pdf

أدباء ليبيون يكسرون طوق الرقيب الأعمى